للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ خِطَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: ١٠٤] وَقَوْلِهِ {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: ١٢٢] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي مُخَاطَبًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ جَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْوُجُوبَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مُتَعَلِّقًا بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، فَإِذَا فَعَلَ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْكُلِّ وَسَبَبُ تَعَلُّقِهِ بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ الْخِطَابُ بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مَجْهُولٍ فَيُؤَدِّيَ ذَلِكَ إلَى تَعَذُّرِ الِامْتِثَالِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْكُلِّ ابْتِدَاءً انْبَعَثَتْ دَاعِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْفِعْلِ لِيَخْلُصَ عَنْ الْعِقَابِ فَهَذَا هُوَ خِطَابُ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَعُرِفَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ وَأَمَّا الْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَهُوَ وَاقِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرًا جِدًّا كَالْأَمْرِ بِإِخْرَاجِ شَاةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَدِينَارٍ مِنْ أَرْبَعِينَ وَالسُّتْرَةِ بِثَوْبٍ وَلَمْ يُعَيَّنْ الشَّرْعُ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ شَيْئًا مِنْ أَشْخَاصِ ذَلِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ لِتَمَكُّنِ الْمُكَلَّفِ مِنْ إيقَاعِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فِي ضِمْنِ مُعَيَّنٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلَا تَتَعَذَّرُ مَصْلَحَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِسَبَبِ عَدَمِ تَعَيُّنِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِخِلَافِ عَدَمِ تَعَيُّنِ الْمَأْمُورِ الَّذِي هُوَ الْمُكَلَّفُ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ خِطَابِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَبَيْنَ الْخِطَابِ بِغَيْرِ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

الْخِطَابَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمُوهُ.

قَالَ (وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ خِطَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ يَقْتَضِي مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: ١٠٤] وَقَوْلُهُ {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: ١٢٢] الْآيَةَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي مُخَاطَبًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ جَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْوُجُوبَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مُتَعَلِّقًا بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ فَإِذَا فَعَلَ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْكُلِّ) قُلْت: لَمْ يَجْعَلْ صَاحِبُ الشَّرْعِ الْوُجُوبَ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ مُتَعَلِّقًا بِالْكُلِّ بَلْ بِالْبَعْضِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَلَا ضَرُورَةَ تُحْمَلُ عَلَيْهِ.

قَالَ (وَسَبَبُ تَعَلُّقِهِ بِالْكُلِّ ابْتِدَاءً لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ الْخِطَابُ بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مَجْهُولٍ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَعَذُّرِ الِامْتِثَالِ) قُلْت لَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ بِمَعْنَى الْإِفْهَامِ إلَّا بِالْكُلِّ وَالْإِلْزَامِ وَالتَّكْلِيفِ لِلْبَعْضِ وَلَا يَتَعَذَّرُ الِامْتِثَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِالْكُلِّ ثُمَّ سُقُوطِهِ عَنْ الْبَعْضِ بِفِعْلِ الْبَعْضِ.

قَالَ (فَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْكُلِّ ابْتِدَاءً انْبَعَثَتْ دَاعِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْفِعْلِ لِيَخْلُصَ مِنْ الْعِقَابِ) قُلْت: وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْبَعْضِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مَعَ مُخَاطَبَةِ الْكُلِّ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُمْ مَتَى أَهْمَلُوا الْقِيَامَ بِذَلِكَ الْوَاجِبِ كُلُّهُمْ لَزِمَهُمْ الْعِقَابُ وَمَتَى قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ الْمُعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِمْ إيَّاهُ أَوْ بِانْبِعَاثِهِ إلَى ذَلِكَ وَعِلْمِهِمْ بِذَلِكَ إنْ كَانَ مَحَلًّا لِإِمْكَانِ الْعِلْمِ أَوْ ظَنِّهِمْ ذَلِكَ إنْ كَانَ مَحَلًّا يَتَعَذَّرُ فِيهِ الْعِلْمُ خَصَّهُ الثَّوَابُ انْبَعَثَتْ دَاعِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْفِعْلِ أَوْ الْعِلْمِ أَوْ الظَّنِّ بِأَنَّ غَيْرِي انْبَعَثَ لِذَلِكَ.

قَالَ (وَأَمَّا الْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا إلَى قَوْلِهِ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: ١٠٤] وقَوْله تَعَالَى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: ١٢٢] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي مُخَاطَبًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَأَمَّا الْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَهُوَ وَاقِعٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرًا جِدًّا كَالْأَمْرِ بِإِخْرَاجِ شَاةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَدِينَارٍ مِنْ أَرْبَعِينَ وَالسُّتْرَةِ بِثَوْبٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُعَيِّنْ الشَّرْعُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ أَشْخَاصِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِتَمَكُّنِ الْمُكَلَّفِ مِنْ إيقَاعِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فِي ضِمْنِ مُعَيَّنٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلَا تَتَعَذَّرُ مَصْلَحَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِسَبَبِ عَدَمِ تَعَيُّنِهِ أَيْ الْمَأْمُورِ بِهِ بِخِلَافِ عَدَمِ تَعَيُّنِ الْمَأْمُورِ الَّذِي هُوَ الْمُكَلَّفُ كَمَا عَلِمْت.

قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْ الْقَاعِدَةِ الْإِجْمَاعِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَعْنِي قَاعِدَةَ أَنَّ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ لِمَا ذَكَرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: ٢] مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْجَمِيعِ بِالْحُضُورِ عِنْدَ حَدِّ الزُّنَاةِ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ الْحُضُورَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَيَسْقُطَ الْأَمْرُ عَنْ الْبَاقِينَ وَإِنْ اقْتَضَى لَفْظُ الْآيَةِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْحُضُورِ الْمَذْكُورِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَالْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ أَعْنِي قَاعِدَةَ أَنَّ الْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَاقِعٌ وَجَائِزٌ وَإِنْ اقْتَضَتْ عَدَمَ تَوَجُّهِ السُّؤَالُ عَلَى قَوْله تَعَالَى {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: ١٢] مِنْ جِهَةِ عَدَمِ تَعَيُّنِ الظَّنِّ الْمُحَرَّمِ إلَّا أَنَّهُ يُتَوَجَّهُ عَلَيْهِ سُؤَالَانِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ إذَا حَرَّمَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِنْ جِنْسٍ فَإِمَّا أَنْ يُحَرِّمَ الْجَمِيعَ لِيُجْتَنَبَ ذَلِكَ الْمُحَرَّمُ وَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ فَمَا الْوَاقِعُ هَا هُنَا مِنْ هَذَيْنِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْوَاقِعَ هَا هُنَا (أَمَّا الْأَوَّلُ) بِأَنْ يُحَرِّمَ الْجَمِيعَ كَمَا حَرَّمَ فِي الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ تَخْتَلِطُ بِأَجْنَبِيَّاتٍ وَالْمَيْتَةُ تَخْتَلِطُ بِمُذَكَّيَاتٍ.

فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ الظَّنِّ عِنْدَ أَسْبَابِهِ الشَّرْعِيَّةِ كَالظَّنِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَاتِ وَالْمُقَوِّمِينَ وَالْمُفْتِينَ وَالرُّوَاةِ لِلْأَحَادِيثِ وَالْأَقْيِسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَظَاهِرِ الْعُمُومَاتِ اعْتَبَرْنَاهُ تَخْصِيصًا لِهَذَا الْعُمُومِ وَلَمْ نَجْتَنِبْهُ بَلْ لَابَسْنَاهُ وَأَبْقَيْنَا مَا لَا دَلِيلَ عَلَى إبَاحَتِهِ تَحْتَ نَهْيِ الْآيَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُمَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ ظَنٍّ حَرَّمْنَاهُ كَالظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ قَوْلِ الْفَاسِقِ وَالنِّسَاءِ فِي الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُثِيرَاتِ لِلظَّنِّ الَّتِي حُرِّمَ عَلَيْنَا اعْتِبَارُ الظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْهَا وَمَا لَمْ يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَبَحْنَاهُ عَمَلًا بِالْبَرَاءَةِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَالْأَوَّلُ عِنْدِي أَظْهَرُ وَأَقْوَى وَالسُّؤَالُ الثَّانِي كَيْفَ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ الظَّنِّ وَهُوَ ضَرُورِيٌّ

<<  <  ج: ص:  >  >>