خِلَافِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَعَدَلْنَا بِاللَّفْظِ إلَى ظَاهِرِهِ لِأَجْلِ مُعَارَضَةِ الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ الْحَقِيقَةُ مَوْضِعَ الْإِجْمَاعِ وَأَمَّا هَهُنَا فَمَوْضِعُ الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ الْقُرْبُ مَوْضِعُ الْإِجْمَاعِ فَلَا مُوجِبَ لِلْعُدُولِ بِاللَّفْظِ عَنْ مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ بَلْ الْمُوجِبُ يُصْرَفُ إلَى مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ فَافْتَرَقَا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يَرَى تَرْجِيحَ الْقَرِيبِ فِي الْجُمَلِ وَهِيَ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ فَيَخُصُّهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالصِّفَةِ وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِمَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الَّذِينَ يَرَوْنَ تَعْمِيمَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالصِّفَةِ فِي جُمْلَةِ الْجُمَلِ وَلَا يُرَجِّحُونَ بِالْقُرْبِ فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا الْجَوَابُ بَلْ مُقْتَضَى مَذْهَبِهِمْ الْحَمْلُ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ الْأُولَى وَالْأَخِيرَةِ حَتَّى يَثْبُتُ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الْجَمْعَ بَيْنَ عَامِلَيْنِ فِي النَّعْتِ مَعَ اتِّفَاقِ الْأَعْرَابِ وَأَنَّ الْعَامِلَ فِي النَّعْتِ هُوَ الْعَامِلُ فِي الْمَنْعُوتِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا عَنْهُمْ صَحَّ الْجَوَابُ أَيْضًا عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ الْحَمْلُ عَلَى إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ لَا عَلَيْهِمَا وَلَا سَبِيلَ إلَى الْحَمْلِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى فَإِنَّهَا هِيَ الْبَعِيدَةُ.
وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِالْعَوْدِ عَلَى جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَقُلْ هِيَ الْبَعِيدَةُ بَلْ انْفِرَادُ الْبَعِيدَةِ بِالْحَمْلِ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ قَائِلٌ بِالتَّعْمِيمِ فِي الْجُمَلِ وَقَائِلٌ بِالْجُمْلَةِ الْقَرِيبَةِ وَحْدَهَا أَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْبَعِيدَةِ وَحْدَهَا فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ فَهَذَا تَلْخِيصُ هَذَا الْمَوْضُوعِ وَتَحْرِيكُ الْبَحْثِ فِيهِ بِحَسَبِ مَا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ فَضْلِهِ.
(الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى وَبَيْنَ قَاعِدَةِ لَوَاحِقِهَا)
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى تَحْرِيمِ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَالرَّبَائِبِ وَمَنْ مَعَهُنَّ فِي قَوْله تَعَالَى
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى وَبَيْنَ قَاعِدَةِ لَوَاحِقِهَا إلَى قَوْلِهِ لَا يُفْهَمُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا الزَّوْجَاتُ الْحَرَائِرُ)
قُلْت لَا أَعْرِفُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ نِسَائِنَا فِي غَالِبِ الْعَادَةِ الْحَرَائِرُ الْمَنْسُوبُونَ إلَيْنَا بِمُبِيحِ الْوَطْءِ وَهُوَ الْعَقْدُ بَلْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْمُرَادَ بِنِسَائِنَا جَمِيعُ الْمَنْكُوحَاتِ بِعَقْدٍ كَانَ نِكَاحُهُنَّ أَوْ مِلْكٍ، حَرَائِرَ كُنَّ أَوْ مَمْلُوكَاتٍ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْمُرَادُ بِهِنَّ الْمَنْكُوحَاتُ بِعَقْدٍ وَتَدْخُلُ فِيهِنَّ الْإِمَاءُ الْمُتَزَوِّجَاتُ أَمَّا قَيْدُ كَوْنِهِنَّ حَرَائِرَ فَلَا وَجْهَ لَهُ عِنْدِي وَأَمَّا قَوْلُهُ الْمَنْسُوبُونَ فَصَوَابُهُ الْمَنْسُوبَاتُ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
هُوَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فِي عَادَةِ الشَّارِعِ وَإِنْ فُقِدَ هَاهُنَا مَعَ فَقْدِ الْمَصْلَحَةِ فِي سَبَبِهِ رَأْسًا إلَّا أَنَّهُ خَلَفَهُ سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ مَعْنًى عَظِيمٌ مُتَحَقِّقٌ بِأَمْرَيْنِ
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ مَصْلَحَةَ أَدَبِ الْعَبْدِ مَعَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحُسْنِ الْوَفَاءِ فِيمَا وَعَدَ رَبَّهُ بِهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ الْتَزَمَهُ وَصَمَّمَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ الْمَصَالِحِ إذْ لَا مَصْلَحَةَ أَعْظَمُ مِنْ الْأَدَبِ حَتَّى قَالَ رُوَيْمٌ: لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ اجْعَلْ عَمَلَك مِلْحًا وَأَدَبَك دَقِيقًا أَيْ اسْتَكْثِرْ مِنْ الْأَدَبِ حَتَّى تَكُونَ نِسْبَتُهُ فِي الْكَثْرَةِ نِسْبَةَ الدَّقِيقِ إلَى الْمِلْحِ فَإِنَّ كَثِيرَ الْأَدَبِ مَعَ قَلِيلٍ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعَمَلِ مَعَ قِلَّةِ الْأَدَبِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ لَا تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ وَلَا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ كَانَ الْمُمْكِنُ فِي عِبَادَتِهِ تَعَالَى هُوَ الْأَدَبُ
(وَثَانِيهِمَا)
إنَّ صِدْقَ الْوَعْدِ وَالْوَفَاءَ بِالِالْتِزَامِ مِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ بَيْنَ الْعِبَادِ وَفِي مُعَامَلَةِ الْمُلُوكِ فَلِعَظَمِ الْمَعْنَى فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ صَحَّ جَعْلُهُمَا سَبَبَ الْوُجُوبِ بَدَلًا مِنْ الْمَصَالِحِ فِي أَنْفُسِ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يَعْرَ الْوُجُوبُ هَاهُنَا عَنْ مَصْلَحَةٍ تُنَاسِبُهُ فَكَانَ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْذُورَاتِ وَالشُّرُوطِ كَمَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوَاجِبَاتِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَدَارِكَهَا غَيْرُ مَدَارِك الْأَسْبَابِ وَالْوَاجِبَاتِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ مَصَالِحُ غَيْرِ مَصَالِحِ نَفْسِ الْأَفْعَالِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْرُمُ لِصِفَتِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْرُمُ لِسَبَبِهِ]
(الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْرُمُ لِصِفَتِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَحْرُمُ لِسَبَبِهِ)
وَهُوَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ كُلَّ مَا حَرُمَ لِصِفَتِهِ كَالْمَيْتَةِ حَرُمَتْ لِصِفَتِهَا وَهِيَ اشْتِمَالُهَا عَلَى الْفَضَلَاتِ الْمُسْتَقْذَرَةِ وَالْخَمْرِ حَرُمَ لِصِفَتِهِ وَهُوَ الْإِسْكَارُ فَلَا يُبَاحُ إلَّا بِسَبَبِهِ كَالْإِضْرَارِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا تُبَاحُ الْمَيْتَةُ إلَّا بِهَا وَكَالْغُصَّةِ الَّتِي لَا يُبَاحُ الْخَمْرُ إلَّا بِهَا، وَمَا يُبَاحُ لِصِفَتِهِ كَالْبُرِّ وَلُحُومِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ أُبِيحَتْ لِصِفَاتِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ فَلَا يَحْرُمُ إلَّا بِسَبَبِهِ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَسْبَابِ تَحْرِيمِ الْمَآكِلِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ الْمُبَاحَةِ لِصِفَاتِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ مُتَنَاوَلَاتِ الْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ يَحْرُمُ لِصِفَتِهِ وَهُوَ مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ تُنَاسِبُ التَّحْرِيمَ فَيَحْرُمُ كَالسَّمُومِ تَحْرُمُ لِعَظْمِ مَفْسَدَتِهَا وَالْكَرَاهَةَ فَيُكْرَهُ كَسِبَاعِ الطَّيْرِ أَوْ الضَّبُعِ مِنْ الْوَحْشِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَقِسْمٌ يُبَاحُ لِصِفَتِهِ إمَّا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ كَالْبُرِّ وَاللَّحْمِ الطَّيِّبِ مِنْ الْأَنْعَامِ وَإِمَّا لِعَدَمِ مَفْسَدَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي الْعَالَمِ فَلَا يَكَادُ يُوجَدُ شَيْءٌ إلَّا وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ مَفْسَدَةٌ نَعَمْ يُمْكِنُ تَنْظِيرُهُ بِأَكْلِ شَعْرَةٍ مِنْ قُطْنٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرَ فِي جَسَدِ ابْنِ آدَمَ فَالْمَوْجُودَاتُ