وَالْوُضُوءَ بِالْمَاءِ الْمَسْرُوقِ وَالذَّبْحَ بِالسِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ وَسَوَّى فِيهِ بَيْنَ مَوَارِدِ النَّهْيِ وَتَوَسَّطَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فَأَوْجَبَا الْفَسَادَ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ دُونَ بَعْضٍ، وَأَنَا أَذْكُرُ حُجَجَ الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ أُذَيِّلُ بِمَسَائِلَ تُوَضِّحُ الْفَرْقَ.
احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ النَّهْيَ إذَا كَانَ فِي نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ فِي نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ وَالْمُتَضَمِّنُ لِلْمُفْسِدَةِ فَاسِدٌ فَإِنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا يَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَبَيْعِ السَّفِيهِ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ أَرْكَانَ الْعَقْدِ أَرْبَعَةٌ: عِوَضَانِ وَعَاقِدَانِ فَمَتَى وُجِدَتْ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ سَالِمَةً عَنْ النَّهْيِ فَقَدْ وُجِدَتْ الْمَاهِيَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا سَالِمَةً عَنْ النَّهْيِ فَيَكُونُ النَّهْيُ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهَا وَمَتَى انْخَرَمَ وَاحِدٌ مِنْ الْأَرْبَعَةِ فَقَدْ عُدِمَتْ الْمَاهِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ الْمُرَكَّبَةَ كَمَا تُعْدَمُ لِعَدَمِ كُلِّ أَجْزَائِهَا تُعْدَمُ لِعَدَمِ بَعْضِ أَجْزَائِهَا فَإِذَا بَاعَ سَفِيهٌ مِنْ سَفِيهٍ خَمْرًا بِخِنْزِيرٍ فَجَمِيعُ الْأَرْكَانِ مَعْدُومَةٌ فَالْمَاهِيَّةُ مَعْدُومَةٌ وَالنَّهْيُ وَالْفَسَادُ فِي نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ وَإِذَا بَاعَ رَشِيدٌ مِنْ رَشِيدٍ ثَوْبًا بِخِنْزِيرٍ فَقَدْ فُقِدَ رُكْنٌ مِنْ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فَتَكُونُ الْمَاهِيَّةُ مَعْدُومَةً شَرْعًا وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ أَوْ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ.
فَإِذَا بَاعَ رَشِيدٌ مِنْ رَشِيدٍ فِضَّةً بِفِضَّةٍ فَالْأَرْكَانُ الْأَرْبَعَةُ مَوْجُودَةٌ سَالِمَةٌ عَنْ النَّهْيِ الشَّرْعِيِّ فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى الْفِضَّتَيْنِ أَكْثَرَ فَالْكَثْرَةُ وَصْفٌ حَصَلَ لِأَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فَالْوَصْفُ مُتَعَلِّقُ النَّهْيِ دُونَ الْمَاهِيَّةِ فَهَذَا هُوَ تَحْرِيرُ كَوْنِ النَّهْيِ فِي الْمَاهِيَّةِ أَوْ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهَا وَخَرَجَ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ عُقُودِ الرِّبَا وَجَمِيعُ مَا هُوَ مِنْ هَذَا الضَّابِطِ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ فِي الْمِثَالِ فَمَتَى وُجِدَتْ الْأَرْكَانُ كُلُّهَا وَأَجْزَاءُ الْمَاهِيَّةِ فَالنَّهْيُ فِي الْخَارِجِ وَمَتَى كَانَ النَّهْيُ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَاهِيَّةِ أَوْ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَالنَّهْيُ فِي الْمَاهِيَّةِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَصْلُ الْمَاهِيَّةِ سَالِمٌ عَنْ الْمَفْسَدَةِ وَالنَّهْيُ إنَّمَا هُوَ فِي الْخَارِجِ عَنْهَا فَلَوْ قُلْنَا بِالْفَسَادِ مُطْلَقًا لَسَوَّيْنَا بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ الْمُتَضَمَّنَةِ لِلْفَسَادِ وَبَيْنَ السَّالِمَةِ عَنْ الْفَسَادِ، وَلَوْ قُلْنَا بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا لَسَوَّيْنَا بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ السَّالِمَةِ فِي ذَاتِهَا وَصِفَاتِهَا وَبَيْنَ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْفَسَادِ فِي صِفَاتِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَوَاطِنِ الْفَسَادِ وَبَيْنَ السَّالِمِ عَنْ الْفَسَادِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
ذَلِكَ الْجُزْءُ الْمَعْدُومُ جُزْءًا مِنْهَا إلَّا بِالتَّوَهُّمِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا فِي غَيْرِ هَذَا الْفَرْضِ أَمَّا فِي هَذَا فَلَا وَغَيْرُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي قَرَّرَهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِقْهٌ حَسَنٌ وَهُوَ قَوْلُهُ.
(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَصْلُ الْمَاهِيَّةِ سَالِمٌ عَنْ الْمَفْسَدَةِ وَالنَّهْيُ إنَّمَا هُوَ فِي الْخَارِجِ عَنْهَا فَلَوْ قُلْنَا بِالْفَسَادِ مُطْلَقًا لَسَوَّيْنَا بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْفَسَادِ وَبَيْنَ السَّالِمَةِ عَنْ الْفَسَادِ وَلَوْ قُلْنَا بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا لَسَوَّيْنَا بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ السَّالِمَةِ فِي ذَاتِهَا وَصِفَاتِهَا وَبَيْنَ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْفَسَادِ فِي صِفَاتِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَوَاطِنِ الْفَسَادِ وَبَيْنَ السَّالِمِ عَنْ الْفَسَادِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَرَمَضَانَ.
وَالثَّانِي: مَا لَا يُوصَفُ بِهِمَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ الِاصْطِلَاحِيِّ وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِهِمَا بِالْمَعْنَى الثَّانِي الِاصْطِلَاحِيِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْأَحْنَافِ أَوْ بِالْمَعْنَى الرَّابِعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَالنَّوَافِلِ فَافْهَمْ.
وَالثَّالِثُ: مَا يُوصَفُ بِالْأَدَاءِ بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ فَقَطْ كَالْجُمُعَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
[الْعِبَادَاتُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ]
(الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَدَاءِ الَّذِي يَثْبُتُ مَعَهُ الْإِثْمُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَدَاءِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ مَعَهُ الْإِثْمُ)
وَذَلِكَ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِّ الْأَدَاءِ وَحَدِّ الْقَضَاءِ لَمَّا لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِمَا لِأَحْوَالِ الْمُكَلَّفِ بَلْ لِلْعِبَادَةِ فَقَطْ وَكَانَ حَدُّ الْأَدَاءِ يَصْدُقُ عَلَى أَنَّ وَقْتَ أَدَاءِ الظُّهْرِ مِنْ أَوَّلِ الزَّوَالِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ أَدَاءِ الْمَغْرِبِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ بِسَبَبِ أَنَّ أَرْبَابَ الْأَعْذَارِ يُدْرِكُونَ الظُّهْرَيْنِ بِزَوَالِ عُذْرِهِمْ فِي مِقْدَارِ مَا يَسَعُ خَمْسَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَيُدْرِكُونَ صَلَاتَيْ اللَّيْلِ بِزَوَالِهِ فِي مِقْدَارِ مَا يَسَعُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ وَقْتُهُ لَا يَلْزَمُ أَرْبَابَ الْأَعْذَارِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَا يَلْزَمُهُمْ صَلَاةُ النَّهَارِ إذَا لَمْ يَزُلْ عُذْرُهُمْ إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَا صَلَاةُ اللَّيْلِ إذَا لَمْ يَزُلْ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا مَنَعَ الْمُكَلَّفَ الَّذِي لَا عُذْرَ لَهُ مِنْ تَأْخِيرِ الْعِبَادَاتِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ مُطْلَقًا وَحَدُّ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ فِي الظُّهْرِ بِآخِرِ الْقَامَةِ وَفِي الْعَصْرِ بِالِاصْفِرَارِ وَفِي الْمَغْرِبِ عَلَى زَاوِيَةِ اتِّحَادِهِ.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَهِيَ الْأَشْهَرُ وَقَالَ فِي الِاسْتِذْكَارِ الِاتِّحَادُ هُوَ الْمَشْهُورُ بِقَدْرِ مَا يَسَعُ فِعْلُهَا بَعْدَ شُرُوطِهَا وَعَلَى رِوَايَةِ امْتِدَادِهِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي عَارِضَتِهِ الْقَوْلُ بِالِامْتِدَادِ هُوَ الصَّحِيحُ وَقَالَ فِي أَحْكَامِهِ إنَّهُ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَقَوْلُهُ الَّذِي فِي مُوَطَّئِهِ الَّذِي قَرَأَهُ طُولَ عُمْرِهِ وَأَمْلَاهُ حَيَاتَهُ اهـ. بِغِيَابِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ كَمَا فِي الْحَطَّابِ عَلَى خَلِيلٍ، وَفِي الْعِشَاءِ أَمَّا بِثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا بِنِصْفِهِ عَلَى الْخِلَافِ وَحَدُّ وَقْتِ الِاضْطِرَارِ فِي الظُّهْرِ مِنْ بَعْدِ الْقَامَةِ وَالْعَصْرِ مِنْ بَعْدِ الِاصْفِرَارِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فِيهِمَا وَفِي الْمَغْرِبِ إمَّا مِنْ بَعْدِ مَا يَسَعُهَا بِشُرُوطِهَا أَوْ مِنْ بَعْدِ غِيَابِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي الْعِشَاءِ إمَّا مِنْ بَعْدِ الثُّلُثِ أَوْ النِّصْفِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فِيهِمَا بِحَيْثُ إنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ حَجَرَ عَلَى الْمُخْتَارِينَ مِنْ إيقَاعِ الظُّهْرِ مَثَلًا فِيمَا بَعْدَ الْقَامَةِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَمِنْ إيقَاعِ الْمَغْرِبِ مَثَلًا فِيمَا بَعْدَ مَا يَسَعُهَا بِشُرُوطِهَا أَوْ فِيمَا بَعْدَ غِيَابِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْوَقْتَيْنِ