الْمُعَيَّنِ وَلْنَذْكُرْ مِنْ هَذَا الْفَرْقِ مَسْأَلَتَيْنِ.
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) قَوْله تَعَالَى {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: ٢] يَقْتَضِي أَنَّ الْمَأْمُورَ هَا هُنَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْأَمْرَ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْجَمِيعِ بِالْحُضُورِ عِنْدَ حَدِّ الزُّنَاةِ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَيَسْقُطَ الْأَمْرُ عَلَى الْبَاقِينَ وَهَذَا لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ اللَّفْظِ بَلْ مِنْ الْقَاعِدَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قَوْله تَعَالَى {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: ١٢] إشَارَةٌ إلَى ظَنٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ بِالتَّحْرِيمِ وَالْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ أَنَّ هَا هُنَا سُؤَالَيْنِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا ضَابِطُ هَذَا الظَّنِّ؟ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا وَلَمْ يُعَيِّنْهُ مِنْ جِنْسٍ لَهُ حَالَتَانِ تَارَةً يَدُلُّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَارَةً يُحَرِّمُ الْجَمِيعُ لِيُجْتَنَبَ ذَلِكَ الْمُحَرَّمُ فَمَا الْوَاقِعُ هَا هُنَا مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الظَّنُّ يَهْجُمُ عَلَى النَّفْسِ عِنْدَ حُضُورِ أَسْبَابِهِ وَالضَّرُورِيُّ لَا يُنْهَى عَنْهُ فَكَيْفُ صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ هَا هُنَا؟
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ: أَنْ نَقُولَ لَنَا هَا هُنَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ نَقُولَ الْمُحَرَّمُ الْجَمِيعُ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَةِ الْبَعْضِ فَيَخْرُجَ مِنْ الْعُمُومِ كَمَا إذَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَاخْتَلَطَتْ بِأَجْنَبِيَّاتٍ فَإِنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ كُلُّهُنَّ وَكَذَلِكَ الْمَيْتَةُ مَعَ الْمُذَكَّيَاتِ إذَا اخْتَلَطْنَ، فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إبَاحَةِ الظَّنِّ عِنْدَ أَسْبَابِهِ الشَّرْعِيَّةِ لَابَسْنَاهُ وَلَمْ نَجْتَنِبْهُ وَكَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِهَذَا الْعُمُومِ وَذَلِكَ كَالظَّنِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَاتِ وَالْمُقَوِّمِينَ وَالْمُفْتِينَ وَالرُّوَاةِ لِلْأَحَادِيثِ وَالْأَقْيِسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَظَاهِرِ الْعُمُومَاتِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ كُلَّهَا تَحْصُلُ الظُّنُونُ الْمَأْذُونُ فِي الْعَمَلِ بِهَا فَأَيُّ شَيْءٍ مِنْ الظُّنُونِ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ اعْتَبَرْنَاهُ وَمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَبْقَيْنَاهُ تَحْتَ نَهْيِ الْآيَةِ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: أَنْ نَقُولَ لَا نَقُولُ بِالْعُمُومِ فِي تَحْرِيمِ جَمِيعِ الظُّنُونِ بَلْ نَقُولُ هَذَا الْبَعْضُ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِالتَّحْرِيمِ مِنْ الظَّنِّ بِعَيْنِهِ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مُهِمٌّ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ ظَنٍّ حَرَّمْنَاهُ كَالظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ قَوْلِ الْفَاسِقِ وَالنِّسَاءِ فِي الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
وَلْنَذْكُرْ مِنْ هَذَا الْفَرْقِ مَسْأَلَتَيْنِ) قُلْت: مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ كَثِيرٌ جِدًّا صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ بِخِلَافِ عَدَمِ تَعْيِينِ الْمَأْمُورِ الَّذِي هُوَ الْمُكَلَّفُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ كَمَا سَبَقَ فَلَمْ يَظْهَرْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخِطَابَيْنِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي زَعَمَ.
قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) إلَى آخِرِهَا قُلْت: مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: ١٢] إشَارَةٌ إلَى ظَنٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ بِالتَّحْرِيمِ وَالْخِطَابُ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ) قُلْت هَكَذَا وَقَعَ هَذَا اللَّفْظُ وَلَعَلَّهُ فِيهِ تَصْحِيفٌ أَوْ فِيهِ تَغْيِيرٌ.
قَالَ (غَيْرَ أَنَّ هَا هُنَا سُؤَالَيْنِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى الْأَوَّلُ مَا ضَابِطُ هَذَا الظَّنِّ إلَى قَوْلِهِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لِأَنَّهُ يَهْجُمُ عَلَى النَّفْسِ عِنْدَ حُضُورِ أَسْبَابِهِ وَالضَّرُورِيُّ لَا يُنْهَى عَنْهُ وَجَوَابُهُ أَنَّ النَّهْيَ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى آثَارِ الظَّنِّ وَسَبَبِهِ الَّذِي هُوَ التَّحَدُّثُ عَنْ الْإِنْسَانِ بِمَا ظَنَّ فِيهِ أَوْ أَذِيَّته بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ بَلْ يَكُفُّ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يُوجَدَ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ يُبِيحُهُ فَفِي الْآيَةِ مَجَازٌ بِالْحَذْفِ أَيْ اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ سَبَبِ الظَّنِّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْمَحْذُوفَ مَجَازًا مُطْلَقًا أَوْ مُرْسَلًا عِلَاقَتُهُ الْمُسَبِّبِيَّةُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي التَّكْلِيفِ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِمَقْدُورٍ مُكْتَسَبٍ لَا بِالضَّرُورِيِّ اللَّازِمِ الْوُقُوعِ أَوْ اللَّازِمِ الِامْتِنَاعِ، فَإِذَا وَرَدَ مَا ظَاهِرُهُ تَعَلُّقُهُ بِغَيْرِ مَقْدُورٍ صُرِفَ إمَّا لِثَمَرَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: ٢] فَالرَّأْفَةُ أَمْرٌ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ قَهْرًا عِنْدَ حُصُولِ أَسْبَابِهَا فَالنَّهْيُ عَنْهَا نَهْيٌ عَنْ ثَمَرَتِهَا الَّتِي هِيَ نَقْصُ الْحَدِّ فَيَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ لَا تَنْقُصْ مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالسَّبَبِ عَنْ الْمُسَبِّبِ.
كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَأَمَّا لِسَبَبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: ١٣٣] فَالْمَغْفِرَةُ مُضَافَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ مَقْدُورَةً لِلْعَبْدِ، فَالْأَمْرُ بِالْمُسَارَعَةِ إلَيْهَا أَمْرٌ بِالْمُسَارَعَةِ لِسَبَبِهَا، وَالْمَعْنَى إمَّا سَارِعُوا إلَى سَبَبِ مَغْفِرَةٍ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ وَإِمَّا أَنَّهُ عَبَّرَ بِهَا عَنْ سَبَبِهَا مَجَازًا عِلَاقَتُهُ الْمُسَبِّبِيَّةُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ هَذَا مَذْهَبُ الْأَصْلِ وَالْحَقُّ خِلَافُهُ وَأَنَّ خِطَابَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِمَعْنَى تَكْلِيفِهِ وَإِلْزَامِهِ وَقَعَ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا وَقَعَ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِلَا فَرْقٍ. قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ: إذْ لَا مَانِعَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ لِلْإِفْهَامِ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ إلَّا لِلْجَمِيعِ لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ بِأَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِجَمَاعَةِ عَبِيدِهِ لِيَفْعَلْ أَحَدُكُمْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْفَاعِلِ مِنْ قِبَلِي وَلَا يَفْعَلْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَمَنْ فَعَلَهُ أَثَبْته وَمَنْ شَارَكَهُ فِيهِ عَاقَبْته وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدٌ مِنْكُمْ ذَلِكَ الْفِعْلَ عَاقَبْتُكُمْ أَجْمَعِينَ فَالْخِطَابُ فِي هَذَا الْمِثَالِ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْجَمِيعِ بِأَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِهِمْ لِذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ يُعَيِّنَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ نَفْسَهُ وَهَكَذَا هُوَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ الْخِطَابُ لِلْجَمِيعِ وَالتَّكْلِيفُ لِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْهُمْ أَوْ لِجَمَاعَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: ١٠٤] وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: ١٢٢] وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: ١٠٢] إلَى آخِرِهَا فَكُلُّ هَذِهِ