للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُثِيرَاتِ لِلظَّنِّ الَّتِي حُرِّمَ عَلَيْنَا اعْتِبَارُ الظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْهَا وَمَا لَمْ يَدُلَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ قُلْنَا هُوَ مُبَاحٌ عَمَلًا بِالْبَرَاءَةِ فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي فَنَقُولُ قَاعِدَةً وَهِيَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي التَّكْلِيفِ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِمَقْدُورٍ مُكْتَسَبٍ دُونَ الضَّرُورِيِّ اللَّازِمِ الْوُقُوعِ أَوْ اللَّازِمِ الِامْتِنَاعِ فَإِذَا وَرَدَ خِطَابٌ وَكَانَ مُتَعَلِّقُهُ مَقْدُورًا حُمِلَ عَلَيْهِ نَحْوَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ أَوْ غَيْرَ مَقْدُورٍ صُرِفَ الْخِطَابُ لِثَمَرَتِهِ أَوْ لِسَبَبِهِ وَمِثَالُ مَا يُحْمَلُ عَلَى ثَمَرَتِهِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: ٢] فَالرَّأْفَةُ أَمْرٌ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ قَهْرًا عِنْدَ حُصُولِ أَسْبَابِهَا فَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَى الثَّمَرَةِ وَالْآثَارِ وَهُوَ تَنْقِيصُ الْحَدِّ فَيَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ لَا نُنْقِصُ الْحَدَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيَكُونُ مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالسَّبَبِ عَنْ الْمُسَبَّبِ.

وَمِثَالُ مَا هُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ وَيُحْمَلُ عَلَى سَبَبِهِ قَوْله تَعَالَى {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: ١٣٣] وَالْمَغْفِرَةُ مُضَافَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ مَقْدُورَةً لِلْعَبْدِ فَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَى سَبَبِ الْمَغْفِرَةِ فَيَصِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ سَارِعُوا إلَى سَبَبِ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ أَوْ عَبَّرَ بِالْمَغْفِرَةِ عَنْ سَبَبِهَا مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالْمُسَبَّبِ عَنْ السَّبَبِ عَكْسُ الْأَوَّلِ وقَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: ١] وَالطَّلَاقُ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى سَبَبِهِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الزَّوْجِ أَنْتِ طَالِقٌ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ بِالسَّبَبِ عَنْ الْمُسَبَّبِ، وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: ١٠٢] وَالْمَوْتُ لَا يُنْهَى عَنْهُ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى سَبَبٍ يَقْتَضِي حُصُولَ الْمَوْتِ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ تَقْدِيمُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ وَالتَّصْمِيمُ عَلَيْهِ فَيَأْتِي الْمَوْتُ حِينَئِذٍ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَمَّا تَعَذَّرَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الظَّنِّ نَفْسِهِ فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى آثَارِهِ مِنْ بَابِ التَّعْبِيرِ بِالْمُسَبَّبِ عَنْ السَّبَبِ وَآثَارُهُ التَّحَدُّثُ عَنْ الْإِنْسَانِ بِمَا ظُنَّ فِيهِ أَوْ أَذِيَّتُهُ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ بَلْ يَكُفُّ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يُوجَدَ سَبَبٌ شَرْعِيٌّ يُبِيحُ ذَلِكَ.

(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَعَيُّنِ الْوَاجِبِ)

أَمَّا إجْزَاءُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ فَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَوْ صَلَّى الْإِنْسَانُ أَلْفَ رَكْعَةٍ مَا أَجْزَأَتْ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَدَفَعَ أَلْفَ دِينَارٍ صَدَقَةً لَا تُجْزِئُ عَنْ دِينَارِ الزَّكَاةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَوَقَعَ فِي الْمَذْهَبِ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ) قُلْت: الطَّرِيقَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا مُحْتَمَلَانِ غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ عِنْدِي أَظْهَرُ وَأَقْوَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ (وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي إلَى آخِرِهِ) قُلْت: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ.

قَالَ (الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ إجْزَاءِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَعَيُّنِ الْوَاجِبِ إلَى قَوْلِهِ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

الْآيَاتِ وَقَعَ الْخِطَابُ لِلْجَمِيعِ أَوْ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْجَمِيعِ وَهُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّكْلِيفُ لَمْ يَشْمَلْ الْجَمِيعَ وَلَا عُلِّقَ بِمُعَيَّنٍ أَمَّا فِي الْآيَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَمُطْلَقًا وَأَمَّا فِي آيَةِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَشْمَلْ الْجَمِيعَ التَّكْلِيفُ بِإِقَامَتِهَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ إلَى بَعْضِهِمْ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَإِلَى الْبَاقِينَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِالْحِرَابَةِ ثُمَّ تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ إلَى الْحَارِسِينَ أَوَّلًا وَبِالْحِرَابَةِ إلَى الْمُصَلِّينَ أَوَّلًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ أَوْضَحُ الْآيَاتِ فِي أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ لَا يَشْمَلُ الْجَمِيعَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحَالَةَ تَقْتَضِي انْقِسَامَ الْجَمِيعِ إلَى قِسْمَيْنِ كُلُّ قِسْمٍ يَقُومُ بِوَاجِبٍ يَتَعَذَّرُ قِيَامُ الْقِسْمِ الْآخَرِ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِقِيَامِهِ فِيهَا بِالْوَاجِبِ الْآخَرِ فَلَمْ يَظْهَرْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخِطَابِ لِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ وَالْخِطَابِ بِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي زَعَمَ انْتَهَى.

(وَصْلٌ) وَأَمَّا مَا بَنَى عَلَيْهِ الْأَصْلُ مَذْهَبَهُ مِنْ قَوْلِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ أَنَّ طَلَبَ الْكِفَايَةِ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْجَمِيعِ لَكِنْ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ فَقَالَ ابْنُ الشَّاطِّ إنَّهُ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ أَلْبَتَّةَ عَلَيْهِ وَلَا ضَرُورَةَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ تَدْعُو إلَيْهِ وَلَمْ يَحْمِلْ الْقَائِلِينَ بِهِ عَلَيْهِ إلَّا تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ الْخِطَابَ بِمَعْنَى الْإِفْهَامِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْخِطَابُ بِمَعْنَى الْإِلْزَامِ أَوْ تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ الْخِطَابَيْنِ لِمَعْنًى وَاحِدٍ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمُوهُ اهـ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي مُوَافَقَاتِهِ: وَمَا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ كُلِّيِّ الطَّلَبِ وَأَمَّا مِنْ جِهَةٍ جُزْئِيِّهِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَيَنْقَسِمُ أَقْسَامًا وَرُبَّمَا تَشَعَّبَ تَشَعُّبًا طَوِيلًا وَلَكِنَّ الضَّابِطَ لِلْجُمْلَةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَبَ وَارِدٌ عَلَى الْبَعْضِ وَلَا عَلَى الْبَعْضِ كَيْفَ كَانَ وَلَكِنْ عَلَى مَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ لَا عَلَى الْجَمِيعِ عُمُومًا وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:

أَحَدُهَا: النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: ١٢٢] فَوَرَدَ التَّخْصِيصُ عَلَى طَائِفَةٍ لَا عَلَى الْجَمِيعِ، وَقَوْلِهِ {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: ١٠٤] الْآيَةَ، وقَوْله تَعَالَى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [النساء: ١٠٢] الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا، وَفِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا النَّحْوِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ وَرَدَ الطَّلَبُ فِيهَا نَصًّا عَلَى الْبَعْضِ لَا عَلَى الْجَمِيعِ. وَالثَّانِي: مَا ثَبَتَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى أَوْ الصُّغْرَى فَإِنَّهَا إنَّمَا تَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ فِيهِ أَوْصَافُهَا الْمَرْعِيَّةُ لَا عَلَى كُلِّ النَّاسِ وَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ إنَّمَا يُطْلَبُ بِهَا شَرْعًا بِاتِّفَاقٍ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْقِيَامِ بِهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>