للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّ الْمَجَازَ لَيْسَ مِنْ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ فَالْمَجَازُ وَالْكَذِبُ إنَّمَا يَأْتِيَانِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ، وَاَلَّذِي لِلْوَضْعِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْحَقِيقَةُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ.

(تَنْبِيهٌ)

قَوْلُنَا فِي حَدِّ الْخَبَرِ إنَّهُ الْمُحْتَمِلُ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يَشْتَرِطُونَ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ الْقَصْدَ إلَيْهِ بَلْ يَكْتَفُونَ بِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَقَالَ الْجَاحِظُ وَغَيْرُهُ يُشْتَرَطُ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ الْقَصْدُ إلَيْهِ وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فَعَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ يَنْقَسِمُ الْخَبَرُ إلَى صِدْقٍ وَهُوَ الْمُطَابِقُ وَكَذِبٍ وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَابِقِ الَّذِي قُصِدَ إلَى عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ وَإِلَى مَا لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَابِقِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدْ إلَى عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ صِدْقًا وَلَا كَذِبًا وَلَا يَحْتَمِلُهُمَا مَعَ أَنَّهُ خَبَرٌ فَيَصِيرُ الْحَدُّ غَيْرَ جَامِعٍ عِنْدَهُمْ فَيَكُونُ فَاسِدًا لَنَا.

قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» فَجَعَلَهُ إذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَهُ كَاذِبًا؛ لِأَنَّهُ فِيهِ غَيْرُ مُطَابِقٍ فِي الْغَالِبِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى يَقْصِدَ إلَيْهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْقَصْدِ فِي الْكَذِبِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» مَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ كَذَبَ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لَا يَسْتَحِقُّ النَّارَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَصَوُّرِ حَقِيقَةِ الْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

أَنَّ الْمَجَازَ لَيْسَ مِنْ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ فَالْمَجَازُ وَالْكَذِبُ إنَّمَا يَأْتِيَانِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَا مِنْ الْوَضْعِ وَاَلَّذِي لِلْوَضْعِ هُوَ الصِّدْقُ وَالْحَقِيقَةُ)

قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي هَذَا التَّنْبِيهِ خَطَأٌ فَاحِشٌ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ مُنْتَحِلِي شَيْءٍ مِنْ عُلُومِ اللِّسَانِ ذَهَبَ إلَيْهِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ قَطُّ إنَّ كُلَّ كَاذِبٍ مُتَجَوِّزٌ فِي إطْلَاقِهِ لَفْظَهُ عَلَى مَعْنَاهُ وَمَا بَنَاهُ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا مِنْ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ بِنَاءً عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَمَا اغْتَرَّ بِهِ مِنْ كَوْنِ لَفْظَةِ قَامَ وُضِعَتْ لِلْإِخْبَارِ عَنْ وُقُوعِ الْقِيَامِ مِمَّنْ أُسْنِدَ إلَيْهِ لَا يَغْتَرُّ بِهِ إلَّا مَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ وَقَلَّ عِلْمُهُ.

قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (تَنْبِيهٌ)

قَوْلُنَا فِي حَدِّ الْخَبَرِ أَنَّهُ الْمُحْتَمِلُ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يَشْتَرِطُونَ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ الْقَصْدَ إلَيْهِ بَلْ يَكْتَفُونَ بِعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَقَالَ الْجَاحِظُ وَغَيْرُهُ يُشْتَرَطُ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ الْقَصْدُ إلَى الْكَذِبِ وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فَعَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ يَنْقَسِمُ الْخَبَرُ إلَى صِدْقٍ وَهُوَ الْمُطَابِقُ وَكَذِبٍ وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَابِقِ الَّذِي قُصِدَ إلَى عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ وَإِلَى مَا لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ، وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَابِقِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدْ.

(فَهَذَا الْقِسْمُ الثَّالِثُ لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ صِدْقًا وَلَا كَذِبًا وَلَا يَحْتَمِلُهُمَا مَعَ أَنَّهُ خَبَرٌ فَيَصِيرُ الْحَدُّ غَيْرَ جَامِعٍ عِنْدَهُمْ لَنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» فَجَعَلَهُ إذَا حَدَّثَ بِمَا سَمِعَهُ كَاذِبًا؛ لِأَنَّهُ فِيهِ غَيْرُ مُطَابِقٍ فِي الْغَالِبِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى يَقْصِدَ إلَيْهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْقَصْدِ فِي الْكَذِبِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» مَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ كَذَبَ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لَا يَسْتَحِقُّ النَّارَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَصَوُّرِ حَقِيقَةِ الْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

إنْشَاءُ لَفْظِهِ فَصْلٌ ثَالِثٌ مُخْرِجٌ لِنَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى وَجْهِ الْغَلَطِ مُرِيدًا أَنْتِ حَائِضٌ فَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ طَلَاقٌ فِي الْفَتْوَى، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِمَنْ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا فِي الْعِدَّةِ أَنْتِ طَالِقٌ مُخْبِرًا بِأَنَّهَا طَالِقٌ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا قَصَدَ الْإِنْشَاءَ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْتِزَامِ مُقْتَضَيَاتِهَا وَفِيهِ (مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ) فَصْلٌ رَابِعٌ مُخْرِجٌ لِصِيَغِ الْإِنْشَاءِ إذَا صَدَرَتْ مِنْ سَفِيهٍ أَوْ فَاقِدِ الْأَهْلِيَّةِ لِعَدَمِ تَرَتُّبِ مَدْلُولِهَا عَلَيْهَا حِينَئِذٍ، وَزِيَادَةٍ أَوْ مُتَعَلِّقَةٍ فِي الْحَدِّ عَطْفًا عَلَى مَدْلُولِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لِأَجْلِ أَنْ تَنْدَرِجَ فِيهِ الْإِنْشَاءَاتُ بِكَلَامِ النَّفْسِ فَإِنَّ كَلَامَ النَّفْسِ لَا دَلَالَةَ فِيهِ وَلَا مَدْلُولَ، وَإِنَّمَا فِيهِ مُتَعَلِّقٌ وَمُتَعَلَّقٌ خَاصَّةً وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْإِنْشَاءِ إلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ الْجَمْعُ فِي الْحَدِّ بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَهُمَا الْقَوْلُ اللِّسَانِيُّ وَالْقَوْلُ النَّفْسَانِيُّ، وَذَلِكَ خَلَلٌ فِي الْحَدِّ كَمَا بَيَّنَ فِي مَحِلِّهِ، فَافْهَمْ.

وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: الْكَلَامُ إنْ كَانَ لِلنِّسْبَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْهُ الْحَاصِلَةِ فِي الذِّهْنِ خَارِجٌ عَنْ مَدْلُولِهِ؛ أَيْ حَاصِلٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَالْفَهْمُ مِنْهُ مُحْتَمِلٌ لَأَنْ تُطَابِقَهُ النِّسْبَةُ أَوْ لَا تُطَابِقَهُ فَخَبَرٌ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ خَارِجٌ أَصْلًا كَأَقْسَامِ الطَّلَبِ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى صِفَاتٍ نَفْسِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِالنَّفْسِ قِيَامَ الْعَرْضِ بِالْمَحَلِّ لَيْسَ لَهَا مُتَعَلِّقٌ خَارِجِيٌّ، أَوْ يَكُونَ لَهُ خَارِجٌ لَكِنْ لَا يَحْتَمِلُ الْمُطَابَقَةَ واللَّامُطَابَقَة كَصِيَغِ الْعُقُودِ فَإِنَّ لَهَا نِسَبًا خَارِجِيَّةً تُوجَدُ بِهَذِهِ الصِّيَغِ، وَلَيْسَتْ لَهَا نِسْبَةٌ مُحْتَمِلَةٌ لَأَنْ تُطَابِقَهَا النِّسْبَةُ الْمَدْلُولَةُ أَوْ لَا تُطَابِقَهَا؛ لِأَنَّهَا لِحُصُولِهَا بِهَا مُطَابِقَةً قَطْعًا فَإِنْشَاءً، وَهَذَا أَقْرَبُ الْحُدُودِ وَأَخْصَرُهَا كَمَا فِي تَقْرِيرَاتِ الشِّرْبِينِيِّ عَلَى حَوَاشِي مَحَلِّي جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَعَلَى هَذَا الْبَيَانِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ سَبَبٌ لِمَدْلُولِهِ بِخِلَافِ الْخَبَرِ. الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْإِنْشَاءَاتِ يَتْبَعُهَا مَدْلُولُهَا فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْمِلْكُ إلَّا بَعْدَ صُدُورِ صِيغَةِ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ، وَالْأَخْبَارُ تَتْبَعُ مَدْلُولَاتِهَا بِمَعْنَى أَنَّ الْخَبَرَ تَابِعٌ لِتَقْرِيرِ مُخْبِرِهِ فِي زَمَانِهِ مَاضِيًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا فَقَوْلُنَا قَامَ زَيْدٌ تَبَعٌ لِقِيَامِهِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَلَوْ قُلْنَا هُوَ قَائِمٌ تَبَعٌ لِقِيَامِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>