نَفْسِ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ فَيُصَدَّقُ أَيْضًا عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ لِعَدَمِ مَا يُطَابِقُهُ الْخَبَرُ لَا لِمُخَالَفَتِهِ لِمَا وُجِدَ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ زَيْدًا وَحْدَهُ فِي الْعَالَمِ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ أَحَدًا فِي مُعْتَقَدِهِ.
وَأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ أَحَدًا فِي مُعْتَقَدِهِ فَإِنَّ الْمُوَافَقَةَ وَالْمُخَالَفَةَ لِلْغَيْرِ فَرْعُ وُجُودِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الْغَيْرُ انْتَفَتْ الْمُوَافَقَةُ لَهُ وَالْمُخَالَفَةُ كَذَلِكَ نَقُولُ هَاهُنَا لَمَّا لَمْ يُوجَدْ خَبَرٌ آخَرُ فِي هَذَا الْبَيْتِ صَدَقَ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ كَذِبٌ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِانْتِفَاءِ مَا تَقَعُ الْمُطَابَقَةُ مَعَهُ فَهُوَ كَذِبٌ جَزْمًا، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْهَمَ مِنْ قَوْلِنَا أَنَّ الْكَذِبَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقِ هَذَا الْمَعْنَى الْعَامَّ الَّذِي يُصَدَّقُ بِطَرِيقَيْنِ وُجِدَ شَيْءٌ يُخَالِفُهُ الْخَبَرُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ غَيْرَ أَنَّ غَالِبَ الِاسْتِعْمَالِ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَالْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْعَامِّ، وَكَذَلِكَ نُجِيبُ عَنْ ارْتِفَاعِ النَّقِيضَيْنِ بِأَنْ نَقُولَ الْوَاقِعُ مِنْهُمَا عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ بِالتَّفْسِيرِ الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ، ذِكْرُهُ وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ قَوْلُهُ كُلُّ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ فِي جَمِيعِ عُمْرِي كَذِبٌ، وَكَانَ لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ فَهَذَا الْخَبَرُ كَذِبٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْأَخْبَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي عُمْرِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ صِدْقًا وَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْأَخِيرَ وَحْدَهُ فَهُوَ لَيْسَ بِصِدْقٍ لِعَدَمِ خَبَرٍ آخَرَ يُطَابِقُهُ، وَهُوَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مُخْبِرٌ أَنَّ خَبَرَهُ هَذَا الْأَخِيرَ خَبَرَانِ: أَحَدُهُمَا غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْآخَرِ وَهُوَ لَيْسَ خَبَرَيْنِ فَيَكُونُ كَذِبًا قَطْعًا سَوَاءٌ أَرَادَ الْأَخْبَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ أَوْ أَرَادَ هَذَا الْخَبَرَ هَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
التَّقْرِيرِ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ الْمُنْحَصِرَةُ، وَيَبْطُلُ حِينَئِذٍ حَدُّ الْخَبَرِ أَوْ رَسْمُهُ بِأَنَّهُ الْقَوْلُ الَّذِي يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ، وَيُحَدُّ أَوْ يُرْسَمُ بِأَنَّهُ الْقَوْلُ الَّذِي يَقْصِدُ قَائِلُهُ بِهِ تَعْرِيفَ الْمُخَاطَبِ بِأَمْرٍ إمَّا هَذَا أَوْ مَا يُشْبِهُهُ أَوْ يُقَارِبُهُ فَإِنْ قِيلَ التَّعْرِيفُ هُوَ الْإِخْبَارُ فَفِيهِ حَدُّ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الرُّسُومَ تَقْرِيبٌ لَا تَحْقِيقٌ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخَبَرَ مَعْرُوفٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِنْشَاءِ مَعْرُوفٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: (وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ قَوْلُهُ كُلُّ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ فِي جَمِيعِ عُمْرِي كَذِبٌ وَكَانَ لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ فَهَذَا الْخَبَرُ كَذِبٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْأَخْبَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي عُمْرِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ لِأَنَّهَا كَانَتْ صِدْقًا) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ.
قَالَ (وَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْخَبَرَ الْأَخِيرَ وَحْدَهُ فَهُوَ لَيْسَ بِصِدْقٍ لِعَدَمِ خَبَرٍ آخَرَ يُطَابِقُهُ) قُلْتُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ احْتِمَالِ إرَادَةِ هَذَا الْخَبَرِ بَعِيدٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ كُلُّ مَا لِلْعُمُومِ وَهِيَ نَصٌّ فِيهِ لَا سِيَّمَا مَعَ اقْتِرَانِهَا بِقَوْلِهِ فِي جَمِيعِ عُمْرِي، وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ إنْ أَرَادَ أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ مَا عَدَا هَذَا الْخَبَرَ فَهُوَ كَاذِبٌ لِصِدْقِهِ فِيمَا قَالَ، وَإِنْ أَرَادَ حَتَّى هَذَا الْخَبَرُ فَهُوَ كَاذِبٌ أَيْضًا لَا لِعَدَمِ خَبَرٍ يُطَابِقُهُ هَذَا الْخَبَرُ بَلْ لِإِخْبَارِهِ بِقَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ تَقْتَضِي شُمُولَ الْكَذِبِ جَمِيعَ أَقْوَالِهِ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ، وَقَدْ فُرِضَ صَادِقًا فِيمَا عَدَا هَذَا الْخَبَرَ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: (وَهُوَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مُخْبِرٌ أَنَّ خَبَرَهُ هَذَا الْأَخِيرَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْآخَرِ وَهُوَ لَيْسَ خَبَرَيْنِ فَيَكُونُ كَذِبًا قَطْعًا سَوَاءٌ أَرَادَ الْأَخْبَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ، أَوْ أَرَادَ هَذَا الْأَخِيرَ هَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ فَخْرُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ) قُلْتُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إخْبَارِهِ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ مُخْبِرًا أَنَّ خَبَرَهُ هَذَا خَبَرَانِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَعَمْرًا، وَقَوْلِكَ: الْعَمْدُ يَشْمَلُ زَيْدًا وَعَمْرًا فِي كَوْنِ كُلٍّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ بِأَنْ يُعْدَمَ أَحَدُهُمَا فِي الْأَوَّلِ وَيُوجَدَ فِي الثَّانِي فَيَكُونُ الْخَبَرُ كَذِبًا فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) الْفَرْقُ بَيْنَ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ مُحَالٌ عَقْلًا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِمَا صُورَةُ اللَّفْظِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ مِنْ الْعُمُومِ، أَوْ أُرِيدَ بِهِمَا مَنْ أُرِيدَ بِالْخِطَابِ وَمَنْ قُصِدَ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالنَّعِيمِ أَوْ الْعِقَابِ أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَإِنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي جَوَازِ دُخُولِ التَّخْصِيصِ فِيهَا فَجَمِيعُ إخْبَارَاتِ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ لَمْ يُرَدْ بِاللَّفْظِ.
وَيَبْقَى الْمُرَادُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا دَخَلَ التَّخْصِيصُ فِي وَعِيدِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: ٨] بِمَنْ عُفِيَ عَنْهُ تَفَضُّلًا أَوْ بِالتَّوْبَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَ شَرًّا مَعَ عَمَلِهِ لَهُ، كَذَلِكَ دَخَلَ التَّخْصِيصُ فِي وَعْدِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: ٧] بِمَنْ حَبِطَ عَمَلُهُ بِرِدَّتِهِ وَسُوءِ خَاتِمَتِهِ أَوْ أُخِذَتْ أَعْمَالُهُ فِي الظُّلَامَاتِ بِالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ فَلَمْ يَرَ خَيْرًا مَعَ أَنَّهُ عَمَلُهُ.
وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَقَعَ مُخْبَرُهُ تَعَالَى مِنْ وَعِيدٍ أَوْ وَعْدٍ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ تَعَالَى بِخَبَرِهِ وَإِلَّا لَحَصَلَ الْخُلْفُ الْمُسْتَحِيلُ عَقْلًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ يَجِبُ حُصُولُ النَّعِيمِ أَوْ الْعَذَابِ لِمَنْ أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِخْبَارِ عَنْ نَعِيمِهِ أَوْ عِقَابِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْخُلْفُ نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَعِيدِ صُورَةُ الْعُمُومِ فَيَكُونُ قَابِلًا لِلتَّخْصِيصِ وَبِالْوَعْدِ مَنْ أُرِيدَ بِالْخِطَابِ فَيَتَعَيَّنُ فِيهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الْمَوْعُودِ، وَعَلَيْهِ يَنْدَفِعُ الْمُحَالُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَيَصِحُّ مَا وَقَعَ لِابْنِ نَبَاتَةَ فِي خُطْبَةٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي إذَا وَعَدَ وَفَى وَإِذَا أَوْعَدَ تَجَاوَزَ وَعَفَا نَظَرًا لِمَا جَرَتْ الْعَوَائِدُ بِهِ مِنْ التَّمَدُّحِ بِالْوَفَاءِ فِي الْوَعْدِ وَالْعَفْوِ فِي الْوَعِيدِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي إذَا أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُخَرَّجَ لِكَلَامِهِ وَجْهٌ، وَهُوَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخَصِّصُهُ إلَّا الرِّدَّةُ لَا غَيْرُ وَوَعِيدَهُ يُخَصِّصُهُ الْإِيمَانُ وَهُوَ نَظِيرُ الرِّدَّةِ وَالتَّوْبَةُ وَالشَّفَاعَةُ وَالْمَغْفِرَةُ وَلَا مُقَابِلَ لَهَا فِي جِهَةِ الْوَعْدِ، فَلَمَّا كَانَتْ مُخَصِّصَاتُ الْوَعْدِ أَقَلَّ مِنْ مُخَصِّصَاتِ الْوَعِيدِ صَحَّ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا ذُكِرَ، وَلَيْسَ مِنْ الْإِيهَامِ الْمَمْنُوعِ إيهَامٌ مِثْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْفُو عَمَّنْ