عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، وَلَيْسَ فِيهَا إشْكَالٌ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفَرْقِ وَالْبَيَانِ.
(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ النِّسْيَانِ فِي الْعِبَادَاتِ لَا يَقْدَحُ وَقَاعِدَةِ الْجَهْلِ يَقْدَحُ وَكِلَاهُمَا غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْغَزَالِيَّ حَكَى الْإِجْمَاعَ فِي إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَالشَّافِعِيَّ فِي رِسَالَتِهِ حَكَاهُ أَيْضًا فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، فَمَنْ بَاعَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا عَيَّنَهُ اللَّهُ وَشَرَعَهُ فِي الْبَيْعِ، وَمَنْ آجَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِجَارَةِ وَمَنْ قَارَضَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقِرَاضِ، وَمَنْ صَلَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ وَجَمِيعُ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ فَمَنْ تَعَلَّمَ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَى مَا عَلِمَ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى طَاعَتَيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ وَلَمْ يَعْمَلْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ مَعْصِيَتَيْنِ، وَمَنْ عَلِمَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى طَاعَةً وَعَصَاهُ مَعْصِيَةً.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: ٤٧] وَمَعْنَاهُ مَا لَيْسَ لِي بِجَوَازِ سُؤَالِهِ عِلْمٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ السُّؤَالِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ وَذَلِكَ سَبَبُ كَوْنِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عُوتِبَ عَلَى سُؤَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِابْنِهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ لِكَوْنِهِ سَأَلَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِحَالِ الْوَلَدِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي طَلَبُهُ أَمْ لَا فَالْعَتْبُ وَالْجَوَابُ كِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْعِلْمِ بِمَا
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ النِّسْيَانِ فِي الْعِبَادَاتِ لَا يَقْدَحُ وَقَاعِدَةِ الْجَهْلِ يَقْدَحُ) قُلْت: وَمَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ مِمَّا وَقَفْت عَلَيْهِ مِنْهُ صَحِيحٌ، وَوَقَعَ فِيهِ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي رَأَيْتهَا مِنْهُ نَقْصٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ فَلِذَلِكَ قُلْت مَا وَقَفْت عَلَيْهِ..
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لِلْإِمَامِ مَالِكٍ لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَامَ حَجِّهِ مَعَ هَارُونَ الرَّشِيدِ إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ لَهُ إنَّ ذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ فَقَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ مِنْ أَيْنَ لَك ذَلِكَ وَأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَهُمَا خُطْبَةٌ.
وَهَذِهِ هِيَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ جَهَرَ فِيهِمَا أَوْ أَسَرَّ فَسَكَتَ أَبُو يُوسُفَ وَظَهَرَتْ الْحُجَّةُ لِمَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ بِسَبَبِ الْإِسْرَارِ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ جَهْرِيَّةٌ فَلَمَّا صَلَّى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَكْعَتَيْنِ سِرًّا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ سَفَرِيَّةً وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ وَإِنَّ الْخُطْبَةَ لِيَوْمِ عَرَفَةَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ مَنَاسِكَ الْحَجِّ لَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْحَجِيجِ السَّفَرُ وَفَرْضُ الْمُسَافِرِ الظُّهْرُ دُونَ الْجُمُعَةِ فَجَعَلَ النَّادِرَ وَهُوَ الْمُقِيمُ بِعَرَفَةَ وَمَنْ مَنْزِلَتُهُ قَرِيبٌ مِنْهَا تَبَعًا لِلْغَالِبِ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ فَتَرْكُ الْجُمُعَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ تَرْكُ الْوَاجِبِ وَلَيْسَ مِنْ مِثْلِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِلظَّلَامِ وَالْمَطَرِ وَالطِّينِ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إلَى وَقْتِهَا لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ فِيمَا عَدَا الْحَالَ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا الْجَمْعُ أَمَّا فِي الْحَالِ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا الْجَمْعُ كَمَا هُنَا فَلَيْسَ تَأْخِيرُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مَثَلًا إلَى وَقْتِهَا مِنْ الْوَاجِبِ بَلْ هُوَ جَائِزٌ كَمَا أَنَّ تَقْدِيمَهَا إلَى وَقْتِ الْأُولَى لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَصْلًا بَلْ هُوَ جَائِزٌ إلَّا أَنَّ تَقْدِيمَهَا لِتَحْصِيلِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِهَا إلَى وَقْتِهَا فَلَمْ يَضِعْ وَاجِبٌ بِالْجَمْعِ وَلَا قُدِّمَ مَنْدُوبٌ عَلَى وَاجِبٍ وَلَا خُولِفَتْ فِي ذَلِكَ الْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ إلَى وَقْتِهَا وَاجِبٌ هُنَا أَيْضًا وَأَنَّ هَذَا الْوَاجِبَ إنَّمَا ضَاعَ بِالْمَنْدُوبِ الَّذِي هُوَ وَصْفُ الْجَمَاعَةِ لِمَا يَلْحَقُ الْجَمَاعَةَ مِنْ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ إمَّا بِخُرُوجِهِمْ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بُيُوتِهِمْ وَعَوْدِهِمْ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَإِمَّا بِإِقَامَتِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْعِشَاءِ وَيُصَلُّوهَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الضَّرَرَ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِالْجَمْعِ لِجَوَازِ دَفْعِهِ بِغَيْرِهِ أَيْضًا وَهُوَ تَفْوِيتُ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ بِأَنْ يَخْرُجُوا الْآنَ وَيُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ أَفْذَاذًا فَقَدْ تَعَارَضَ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ فِي دَفْعِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ عَنْ الْمُكَلَّفِ وَالْمَعْهُودُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ مَحَلَّ دَفْعِ الضَّرَرِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَتَقْدِيمِ الْمَنْدُوبِ عَلَيْهِ إذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَإِلَّا وَجَبَ تَقْدِيمُ الْوَاجِبِ وَتَرْكُ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْقَاعِدَةِ.
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّا وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَعَ هَذَا التَّعَارُضِ وَعَدَمِ تَعَيُّنِ تَرْكِ الْوَاجِبِ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَلَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْوَاجِبِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْمَنْدُوبَاتِ قِسْمَانِ قِسْمٌ تَقْصُرُ مَصْلَحَتُهُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ.
وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فَإِنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ تَتْبَعُ الْمَصَالِحَ الْخَالِصَةَ أَوْ الرَّاجِحَةَ وَنَوَاهِيهِ تَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ الْخَالِصَةَ أَوْ الرَّاجِحَةَ حَتَّى يَكُونَ أَدْنَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ وَالنَّدْبِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ ثُمَّ تَتَرَقَّى الْمَصْلَحَةُ وَالنَّدْبُ وَتَعْظُمُ رُتْبَتُهُ حَتَّى يَكُونَ أَعْلَى رُتَبِ الْمَنْدُوبَاتِ تَلِيهِ أَدْنَى رُتَبِ الْوَاجِبَاتِ وَأَدْنَى رُتَبِ الْمَفَاسِدِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَدْنَى رُتَبِ الْمَكْرُوهَاتِ ثُمَّ تَتَرَقَّى الْمَفَاسِدُ وَالْكَرَاهَةُ فِي الْعِظَمِ حَتَّى يَكُونَ أَعْلَى رُتَبِ الْمَكْرُوهَاتِ يَلِيهِ أَدْنَى الْمُحَرَّمَاتِ وَقِسْمٌ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ لَا تَقْصُرُ مَصْلَحَتُهُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ بَلْ تَارَةً يُسَاوِي الْوَاجِبَ وَتَارَةً يَفْضُلُهُ فِيهَا فَمَا وَرَدَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَنْدُوبَاتِ عَلَى الْوَاجِبِ كَمَا هُنَا فَإِنَّ الْمَنْدُوبَ الَّذِي هُوَ أَدَاءُ الْعِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ يَجْمَعُهَا مَعَ الْعِشَاءِ قُدِّمَ عَلَى الْوَاجِبِ