للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُرِيدُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمِثْلُهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: ٣٦] نَهَى اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ اتِّبَاعِ غَيْرِ الْمَعْلُومِ فَلَا يَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي شَيْءٍ حَتَّى يُعْلَمَ فَيَكُونُ طَلَبُ الْعِلْمِ وَاجِبًا فِي كُلِّ حَالَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَلَبُ الْعِلْمِ قِسْمَانِ فَرْضُ عَيْنٍ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ فَفَرْضُ الْعَيْنِ عِلْمُك بِحَالَتِك الَّتِي أَنْتَ فِيهَا.

وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ مَا عَدَا ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ بِمَا يُقْدِمُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ وَاجِبًا كَانَ الْجَاهِلُ فِي الصَّلَاةِ عَاصِيًا بِتَرْكِ الْعِلْمِ فَهُوَ كَالْمُتَعَمِّدِ التَّرْكَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ الْجَهْلَ فِي الصَّلَاةِ كَالْعَمْدِ، وَالْجَاهِلُ كَالْمُتَعَمِّدِ لَا كَالنَّاسِي.

وَأَمَّا النَّاسِي فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ لَا إثْمَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَهَذَا فَرْقٌ، وَفَرْقٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ النِّسْيَانَ يَهْجُمُ عَلَى الْعَبْدِ قَهْرًا لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْهُ، وَالْجَهْلُ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ بِالتَّعَلُّمِ وَبِهَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ النِّسْيَانِ وَقَاعِدَةِ الْجَهْلِ

. (الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ)

اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ تَسَامَحَ فِي جَهَالَاتٍ فِي الشَّرِيعَةِ فَعَفَا عَنْ مُرْتَكِبِهَا، وَأَخَذَ بِجَهَالَاتٍ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

قَالَ (الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ، وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَكُونُ الْجَهْلُ عُذْرًا فِيهِ إلَى آخِرِهِ) قُلْت: مَا قَالَهُ فِيهِ صَحِيحٌ غَيْرَ إطْلَاقِهِ لَفْظَ الظَّنِّ فِي وَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَمَا مَعَهُ فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ حَقِيقَةَ الظَّنِّ الَّذِي يَخْطِرُ لِصَاحِبِهِ احْتِمَالُ نَقِيضِهِ فَلَا أَرَى ذَلِكَ صَوَابًا، وَإِنْ أَرَادَ بِالظَّنِّ الِاعْتِقَادَ الْجَزْمِيَّ الَّذِي لَا يَخْطِرُ مَعَهُ احْتِمَالُ النَّقِيضِ فَذَلِكَ صَوَابٌ وَغَيْرَ قَوْلِهِ تَكْلِيفُ الْمَرْأَةِ الْبَلْهَاءِ الْمَفْسُودَةِ الْمِزَاجِ فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ الْفَاسِدَةَ الْمِزَاجُ بِحَيْثُ لَا تَفْقَهُ شَيْئًا فَلَا أَرَى ذَلِكَ صَوَابًا فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

الَّذِي هُوَ أَدَاؤُهَا فِي وَقْتِهَا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ سَوَاءٌ أَعْلِمْنَا أَنَّ مَصْلَحَةَ ذَلِكَ الْمَنْدُوبِ أَعْظَمُ ثَوَابًا مِنْ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ أَوْ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِيهَا أَوْ لَمْ نَعْلَمْ ذَلِكَ أَمَّا إذَا عَلِمْنَا أَنَّ مَصْلَحَتَهُ أَكْثَرُ كَمَا فِي الْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي وُجِدَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَأَنَّ ثَوَابَهَا أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِ الْوَاجِبَاتِ فَدَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَصَالِحَهَا أَعْظَمُ مِنْ مَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ فَلَا كَلَامَ كَمَا إذَا عَلِمْنَا التَّسَاوِي لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِإِرَادَتِهِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مَصْلَحَةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ بِسَبَبِ قَصْدِ الْوُجُوبِ فِيهِ أَوْ وُقُوعِهِ فِي حَيِّزِ الْوَاجِبِ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ نَعْلَمْ ذَلِكَ فَلِأَنَّا نَسْتَدِلُّ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ وَنَقُولُ مَا قَدَّمَ صَاحِبُ الشَّرْعِ هَذَا الْمَنْدُوبَ عَلَى هَذَا الْوَاجِبِ إلَّا لِكَوْنِ مَصْلَحَتِهِ أَعْظَمَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّا اسْتَقْرَيْنَا الشَّرِيعَةَ فَوَجَدْنَاهَا مَصَالِحَ عَلَى وَجْهِ التَّفَضُّلِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.

وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - إذَا سَمِعْتُمْ قِرَاءَةَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَمِعُوا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِخَيْرٍ وَيَنْهَاكُمْ عَنْ شَرٍّ هَذَا كَلَامُ الْأَصْلِ مُلَخَّصًا إلَّا أَنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ إنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ تَتْبَعُ الْمَصَالِحَ وَنَوَاهِيَهُ تَتْبَعُ الْمَفَاسِدَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ وَهُوَ أَنَّ الْمَصَالِحَ تَتْبَعُ الْأَوَامِرَ وَالْمَفَاسِدَ تَتْبَعُ النَّوَاهِيَ أَمَّا فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الْأُخْرَوِيَّةِ فَلَا خَفَاءَ بِهِ فَإِنَّ الْمَصَالِحَ هِيَ الْمَنَافِعُ وَلَا مَنْفَعَةَ أَعْظَمُ مِنْ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْمَفَاسِدُ هِيَ الْمَضَارُّ وَلَا ضَرَرَ أَعْظَمُ مِنْ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ.

وَأَمَّا فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَعَلَى ذَلِكَ دَلَائِلُ مِنْ الظَّوَاهِرِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: ٤٥] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: ٢٨٢] وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ» إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكَادُ يَنْحَصِرُ نَعَمْ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَوَامِرَ وَرَدَتْ لِتَحْصُلَ عِنْدَ امْتِثَالِهَا الْمَصَالِحُ وَإِنَّ النَّوَاهِيَ وَرَدَتْ لِتَرْتَفِعَ عِنْدَ امْتِثَالِهَا الْمَفَاسِدُ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَقَوْلُهُ إنَّهُ وُجِدَ فِي الشَّرِيعَةِ مَنْدُوبَاتٌ أَفْضَلُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَثَوَابُهَا أَعْظَمُ مِنْ ثَوَابِ الْوَاجِبَاتِ فَدَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَصَالِحَهَا أَعْظَمُ مِنْ مَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ وَلَا صَحِيحٍ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَعْظَمُ مِنْ الْمَنْدُوبِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَا مُعَارِضَ لَهُ.

وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: ١٨٤] نَقُولُ بِمُوجِبِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَقْصُودُهُ وَالْمُنَاسِبُ لِلْبِنَاءِ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ أَنْ يَكُونَ الْأَعْظَمُ مَصْلَحَةً بِحَيْثُ يَبْلُغُ إلَى حَدِّ مَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ وَاجِبًا وَالْأَدْنَى مَصْلَحَةً مَنْدُوبًا أَمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَعْظَمُ مَصْلَحَةً مَنْدُوبًا وَالْأَدْنَى مَصْلَحَةً وَاجِبًا فَلَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ بِوَجْهٍ وَمَا مَثَّلَ بِهِ مِنْ الصُّوَرِ السَّبْعِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمَنْدُوبَاتِ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهُ.

أَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى فَإِنَّ الْأَعْظَمَ فِيهَا أَجْرًا إنَّمَا هُوَ إنْظَارُ الْمُعْسِرِ بِالدَّيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ لَا كَمَا قَالَ مِنْ أَنَّ الْأَعْظَمَ أَجْرًا هُوَ إبْرَاؤُهُ مِنْهُ مِنْ جِهَةِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْإِنْظَارُ إذْ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَاءُ الَّذِي هُوَ إسْقَاطٌ لِلطَّلَبِ بِالْكُلِّيَّةِ وَمُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ طَلَبِهِ بَعْدُ مُتَضَمِّنًا لِلْإِنْظَارِ الَّذِي هُوَ تَأْخِيرُ الطَّلَبِ بِالدَّيْنِ وَمُسْتَلْزِمٌ لِطَلَبِهِ بَعْدُ وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمُكَلَّفِ نَحْوَ الظُّهْرِ إذَا فَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ وَقَعَتْ وَاجِبَةً.

وَإِذَا فَعَلَهَا وَحْدَهُ وَقَعَتْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهَا إلَّا أَنَّ أَحَدَ الْوَاجِبَيْنِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْآخَرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>