الَّذِي إذَا وَقَعَ فِي الْوُجُودِ قَدْ يَكُونُ رَحْمَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَنْ يَبْتَلِيهِ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَلَمِ لِرَفْعِ دَرَجَاتِهِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْنُ الْأَنْبِيَاءَ أَشَدُّ بَلَاءً ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ يَتَأَلَّمُونَ بِالْبَلَايَا وَالرَّزَايَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَذَابًا بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ بَلْ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ عَلَى الْقَرْنِ الْمَاضِي أَنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَايَا كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ، وَالْعَذَابُ يُسْتَعَاذُ مِنْهُ وَلَا يُفْرَحُ بِهِ فَهَذَا الْوَجْهُ عِنْدِي هُوَ الْفَرْقُ الصَّحِيحُ، وَيَبْقَ اللَّفْظُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيُسْتَغْنَى عَنْ التَّأْوِيلِ وَتَخْطِئَةِ الرَّاوِي وَمَا سَاعَدَهُ الظَّاهِرُ مِنْ الْأَجْوِبَةِ كَانَ أَسْعَدَهَا وَأَوْلَاهَا وَهَذَا كَذَلِكَ، فَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْفَرْقِ.
(الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِالْحِسَابِ وَالْآلَاتِ وَكُلِّ مَا دَلَّ عَلَيْهَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَهِلَّةُ فِي الرَّمَضَانَاتِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا بِالْحِسَابِ) وَفِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْحِسَابِ فَإِذَا دَلَّ حِسَابُ تَسْيِيرِ الْكَوَاكِبِ عَلَى خُرُوجِ الْهِلَالِ مِنْ الشُّعَاعِ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ لَا يَجِبُ الصَّوْمُ قَالَ سَنَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ يَرَى الْحِسَابَ فَأَثْبَتَ الْهِلَالَ بِهِ لَمْ يُتَّبَعْ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى خِلَافِهِ مَعَ أَنَّ حِسَابَ الْأَهِلَّةِ وَالْكُسُوفَاتِ وَالْخُسُوفَاتِ قَطْعِيٌّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِأَنَّ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَانْتِقَالَاتِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ السَّيَّارَةِ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ طُولَ الدَّهْرِ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: ٣٩] وَقَالَ تَعَالَى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: ٥] أَيْ هُمَا ذَوَا حِسَابٍ فَلَا يَنْخَرِم ذَلِكَ أَبَدًا، وَكَذَلِكَ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ لَا يَنْخَرِمُ حِسَابُهَا، وَالْعَوَائِدُ إذَا اسْتَمَرَّتْ أَفَادَتْ الْقَطْعَ كَمَا إذَا رَأَيْنَا شَيْخًا نَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَمْ يُولَدْ كَذَلِكَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ هُوَ الْمَصْلَحَةُ وَالْحِكْمَةُ الْمُوجِبَةُ لِاعْتِبَارِ الرِّضَا، وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ، وَمَظِنَّةُ الرِّضَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَالْحَاجَةُ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى لِكَوْنِهَا الْمُوجِبَةَ لِاعْتِبَارِ الرِّضَا وَاعْتِبَارُ الرِّضَا فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُهَا وَاعْتِبَارُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ اعْتِبَارِ الرِّضَا وَفَرْعُهُ وَمِنْهَا السَّفَرُ فَإِنَّ رَاحَةَ الْمُكَلَّفِ وَصَلَاحَ جِسْمِهِ مَصْلَحَةٌ وَحِكْمَةٌ تُوجِبُ أَنَّ الْمَشَقَّةَ إذَا عَرَضَتْ أَوْجَبَتْ تَخْفِيفَ الْعِبَادَةِ عَنْهُ لِئَلَّا تَعْظُمَ الْمَشَقَّةُ فَتَضِيعَ مَصَالِحُهُ بِإِضْعَافِ جِسْمِهِ وَإِهْلَاكِ قُوَّتِهِ.
وَمَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ أَرْبَعَةُ الْبُرُدِ فَحِفْظُ صِحَّةِ الْجِسْمِ وَتَوْفِيرُ قُوَّتِهِ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى لِكَوْنِهِ هُوَ الْمُوجِبُ لِاعْتِبَارِ وَصْفِ الْمَشَقَّةِ، وَالْمَشَقَّةُ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا أَثَرُهُ وَالْأَثَرُ فَرْعُ الْمُؤَثِّرِ، وَأَرْبَعَةُ الْبُرُدِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا فَرْعُ اعْتِبَارِ الْمَشَقَّةِ وَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ ظَاهِرًا مُنْضَبِطًا اُعْتُمِدَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُقَامَ مَظِنَّتُهُ مَقَامَهُ تَتَحَقَّقُ الْحِكْمَةُ وَالْوَصْفُ مِنْ غَيْرِ مَظِنَّةٍ وَلَهُ مُثُلٌ مِنْهَا أَنَّ الرَّضَاعَ وَصْفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَحِكْمَتُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ جُزْءُ الْمَرْأَةِ الَّذِي هُوَ اللَّبَنُ جُزْءَ الصَّبِيِّ الرَّضِيعِ فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ إيجَابُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ نَظِيرَ إيجَابِ صَيْرُورَةِ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ وَطَمْثِهَا جُزْءَ الصَّبِيِّ لِلتَّحْرِيمِ بِالنَّسَبِ.
فَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّضَاعُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» فَالْجُزْئِيَّةُ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى وَهِيَ الْحِكْمَةُ، وَوَصْفُ الرَّضَاعِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ فَرْعُهَا، وَمِنْهَا أَنَّ الزِّنَا وَصْفٌ كَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ وَاخْتِلَاطُ الْأَنْسَابِ حِكْمَتُهُ الْمُوجِبَةُ لِكَوْنِهِ كَذَلِكَ فَالِاخْتِلَاطُ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى، وَوَصْفُ الزِّنَا الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ، وَمِنْهَا أَنَّ السَّرِقَةَ وَصْفٌ كَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْقَطْعِ وَضَيَاعُ الْمَالِ حِكْمَتُهُ الْمُوجِبَةُ لِكَوْنِهِ كَذَلِكَ فَضَيَاعُ الْمَالِ فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى، وَوَصْفُ السَّرِقَةِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ فَوَصْفُ كُلٍّ مِنْ الرَّضَاعِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ لَمَّا كَانَ ظَاهِرًا مُنْضَبِطًا لَمْ يَحْتَجْ لِقِيَامِ مَظِنَّتِهِ مَقَامَهُ فَلَمْ يَحْتَجْ لِلرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ أَنْ يَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَى كُلِّ مَنْ تَحَقَّقَتْ فِيهِ تِلْكَ الْحِكْمَةُ، وَإِلَّا لَحُرِّمَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى صَبِيٍّ أَكَلَ مِنْهَا قِطْعَةَ لَحْمٍ لِتَحَقُّقِ صَيْرُورَةِ جُزْئِهَا جُزْءًا مِنْهُ، وَلَوَجَبَ حَدُّ الزِّنَا عَلَى مَنْ يَأْخُذُ الصِّبْيَانَ مِنْ أُمَّهَاتِهِمْ صِغَارًا.
وَيَأْتِي بِهِمْ كِبَارًا بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُونَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَوْجَبَ اخْتِلَاطَ الْأَنْسَابِ، وَلَوَجَبَ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى مَنْ ضَيَّعَ الْمَالَ بِالْغَصْبِ وَالْعُدْوَانِ وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ كُلِّهِ أَحَدٌ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ جَوَازُ التَّعْلِيلِ بِالْمَظِنَّةِ فَلِذَا قَالَ الْجُمْهُورُ بِالتَّعْلِيلِ بِهَا، وَلَمْ يَقُولُوا بِالتَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ فَافْهَمْ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَظِنَّةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي تَرَتُّبِ الْحُكْمِ الْقَطْعُ بِعَدَمِ الْحِكْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّا نُقِيمُ حَدَّ الزِّنَا وَحَدَّ السَّرِقَةِ وَإِنْ قَطَعْنَا بِعَدَمِ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ مِنْ الزِّنَا بِأَنْ تَحِيضَ الْمَرْأَةُ وَيَظْهَرَ عَدَمُ حَمْلِهَا أَوْ جَزَمْنَا بِعَدَمِ ضَيَاعِ الْمَالِ بِسَبَبِ أَخْذِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ، وَالْغَالِبُ فِي مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْمَظِنَّةِ إذَا قَطَعْنَا فِيهَا بِعَدَمِ الْمَظْنُونِ أَلَا تَرَى أَنَّ نَحْوَ الْكُفْرِ وَالْعُقُودِ النَّاقِلَةِ لِلْأَمْلَاكِ أَوْ الْمُوجِبَةِ لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ الْمَظَانِّ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا بِالْإِكْرَاهِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِ الْإِكْرَاهِ فَلْيُتَفَطَّنْ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهَذِهِ التَّفَاصِيلِ فَإِنَّهَا وَإِنْ ذُكِرَتْ هُنَا لِبِنَاءِ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهَا، وَكَوْنِهَا سِرَّهُ إلَّا أَنَّهَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْفُقَهَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - كَثِيرًا فِي مَوَارِدِ الْفِقْهِ وَالتَّرْجِيحِ وَالتَّعْلِيلِ