للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاسْتِمْرَارِ الْأَيَّامِ وَاَلَّذِي لَا يُعْلَمُ الْيَوْمَ يُعْلَمُ فِي غَدٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْخِيرِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ فَسَادٌ فَلَا يَكُونُ عُذْرًا لِأَحَدٍ وَلِذَلِكَ أَلْحَقَ مَالِكٌ الْجَاهِلَ فِي الْعِبَادَاتِ بِالْعَامِدِ دُونَ النَّاسِي؛ لِأَنَّهُ جَهْلٌ يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: ٤٧] أَيْ بِجَوَازِ سُؤَالِهِ فَاشْتَرَطَ الْعِلْمَ بِالْجَوَازِ قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَى الدُّعَاءِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدُّعَاءِ التَّحْرِيمُ إلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ جَلِيلَةٌ يَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهَا فِي الْفُرُوقِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيَنْبَغِي لِلسَّائِلِ أَنْ يَحْذَرَ هَذِهِ الْأَدْعِيَةَ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا حَذَرًا شَدِيدًا لِمَا تُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ سَخَطِ الدَّيَّانِ وَالْخُلُودِ فِي النِّيرَانِ وَحُبُوطِ الْأَعْمَالِ وَانْفِسَاخِ الْأَنْكِحَةِ وَاسْتِبَاحَةِ الْأَرْوَاحِ وَالْأَمْوَالِ وَهَذَا فَسَادٌ كُلُّهُ يَتَحَصَّلُ بِدُعَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا تَرْتَفِعُ أَكْثَرُ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ إلَّا بِتَجْدِيدِ الْإِسْلَامِ وَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَإِنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ أَمْرُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ مِنْ مُوجِبَاتِ عِقَابِهِ، وَأَصْلُ كُلِّ فَسَادٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنَّمَا هُوَ الْجَهْلُ فَاجْتَهِدْ فِي إزَالَتِهِ عَنْك مَا اسْتَطَعْت كَمَا أَنَّ أَصْلَ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ فَاجْتَهِدْ فِي تَحْصِيلِهِ مَا اسْتَطَعْت وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُعِينُ عَلَى الْخَيْرِ كُلِّهِ فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَقْسَامُ بِتَمَيُّزِهَا حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ الدُّعَاءِ وَمَا لَيْسَ بِكُفْرٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ

(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ مِنْ الدُّعَاءِ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ مُحَرَّمًا) .

وَقَدْ حَضَرَنِي مِنْ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ اثْنَا عَشَرَ قِسْمًا ثَبَتَ الْحَصْرُ فِيهَا بِالِاسْتِقْرَاءِ فَتَكُونُ هِيَ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

قَالَ (إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيَنْبَغِي لِلسَّائِلِ أَنْ يَحْذَرَ هَذِهِ الْأَدْعِيَةَ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا حَذَرًا شَدِيدًا. ثُمَّ قَالَ فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَقْسَامُ بِتَمَيُّزِهَا حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ كُفْرٌ مِنْ الدُّعَاءِ، وَمَا لَيْسَ بِكُفْرٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ)

قُلْت لَمْ يَحْصُلْ الْمَطْلُوبُ بِمَا قَرَّرَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَدْعِيَةِ فِي هَذَا الْفَرْقِ لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ عَلَى أَنَّهُ بِعَيْنِهِ كُفْرٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهِ.

قَالَ (الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ مِنْ الدُّعَاءِ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَيْسَ مُحَرَّمًا، وَقَدْ حَضَرَنِي مِنْ الْمُحَرَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِكُفْرٍ اثْنَا عَشَرَ قِسْمًا ثَبَتَ الْحَصْرُ فِيهَا بِالِاسْتِقْرَاءِ فَتَكُونُ هِيَ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

التَّنْبِيهُ الثَّانِي) خَرَّجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ الَّذِي يَكْرَهُهُ فَلْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إذَا اسْتَيْقَظَ وَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -» قَالَ الْبَاجِيَّ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يَقُولُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ - إذَا نَفَثَ عَنْ يَسَارِهِ: أَعُوذُ بِمَنْ اسْتَعَاذَتْ بِهِ مَلَائِكَةُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ مِنْ شَرِّ مَا رَأَيْت فِي مَنَامِي هَذَا أَنْ يُصِيبَنِي مِنْهُ شَيْءٌ أَكْرَهُهُ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ عَلَى جَانِبِهِ الْآخَرِ اهـ وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْمُبَشِّرَةَ أَوْ الصَّالِحَةَ، وَالْحُلْمُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا يُحْزِنُ، أَوْ الْكَاذِبَةُ يُخَيَّلُ بِهَا لِيَفْرَحَ أَوْ يَحْزَنَ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: الْفَرْقُ بَيْنَ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ رُؤْيَا غَيْرِهِمْ إذَا أَخْطَأَ فِي تَأْوِيلِهَا لَا تَخْرُجُ كَمَا أُوِّلَتْ وَرُؤْيَا غَيْرِ الصَّالِحِ لَا يُقَالُ فِيهَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ، وَإِنَّمَا يُلْهِمُ اللَّهُ - تَعَالَى - الرَّائِيَ التَّعَوُّذَ إذَا كَانَتْ مِنْ الشَّيْطَانِ أَوْ قَدَّرَ أَنَّهَا لَا تُصِيبُهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِنَّ شَرَّ الْقَدَرِ قَدْ يَكُونُ وُقُوعُهُ مَوْقُوفًا عَلَى عَدَمِ الدُّعَاءِ اهـ (وَصْلٌ فِي ثَمَانِ مَسَائِلَ) تَتَعَلَّقُ بِالرُّؤْيَا (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى)

خَرَّجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» قَالَ الْبَاجِيَّ فِي الْمُنْتَقَى قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَعْنَاهُ أَنَّ مُدَّةَ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ نُبُوَّةٌ بِالرُّؤْيَا فَأَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصُّبْحِ، وَنِسْبَةُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا، وَقِيلَ: أَجْزَاءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ، وَرُوِيَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَرُوِيَ مِنْ سَبْعِينَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي الرُّؤْيَا فَيُحْمَلَ الْأَوَّلُ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَالْأَكْثَرِ مِنْ الْعَدَدِ عَلَى الرُّؤْيَا الْخَفِيَّةِ، أَوْ تَكُونَ السِّتَّةُ وَالْأَرْبَعُونَ هِيَ الْمُبَشِّرَةَ، وَالسَّبْعُونَ هِيَ الْمُحْزِنَةَ وَالْمَخُوفَةَ لِقِلَّةِ تَكَرُّرِهِ، وَلِمَا يَكُونُ جِنْسُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ اهـ قَالَ الزَّرْقَانِيُّ: وَمَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مُدَّةَ نُبُوَّتِهِ إلَخْ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: بَعِيدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَعْدَ الْبَعْثَةِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَبْقَى حَدِيثُ سَبْعِينَ جُزْءًا لَا مَعْنَى لَهُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ.

هَذَا وَإِنْ كَانَ وَجْهًا تَحْمِلُهُ قِسْمَةُ الْحِسَابِ وَالْعَدَدِ فَأَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى قَائِلِهِ أَنْ يُثْبِتَ مَا ادَّعَاهُ خَبَرًا، وَلَمْ نَسْمَعْ فِيهِ أَثَرًا وَلَا ذَكَرَ مُدَّعِيهِ فِيهِ خَبَرًا، فَكَأَنَّهُ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ، وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا، وَلَيْسَ كُلُّ مَا خَفِيَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ يَلْزَمُنَا حُجَّتُهُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَأَيَّامِ الصِّيَامِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ فَإِنَّا لَا نَصِلُ مِنْ عِلْمِهَا إلَى أَمْرٍ يُوجِبُ حَصْرَهَا تَحْتَ أَعْدَادِهَا.

وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ فِي مُوجِبِ اعْتِقَادِنَا

<<  <  ج: ص:  >  >>