أَنَّهُ الْمُسْتَوْلِي بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ عَلَى سَائِرِ الْكَائِنَاتِ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ لَهُ فِي ذَلِكَ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: ٢] وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهُ عَوَائِدُ فِي مُلْكِهِ رَتَّبَهَا بِحِكْمَتِهِ فَمُقْتَضَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ انْقِطَاعُ الْقَلْبِ عَنْ غَيْرِهِ وَمُقْتَضَى سُلُوكُ أَدَبِهِ الْتِمَاسُ فَضْلِهِ مِنْ عَوَائِدِهِ.
وَقَدْ انْقَسَمَ الْخَلْقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ عَامَلُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمُقْتَضَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَحَصَلُوا عَلَى حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ وَأَعْرَضُوا عَنْ الْأَسْبَابِ فَفَاتَهُمْ الْأَدَبُ الْوَاجِبُ الِاتِّبَاعِ. وَقِسْمٌ لَاحَظُوا الْأَسْبَابَ وَاسْتَوْلَتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَحَجَبَتْهُمْ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَهَؤُلَاءِ فَاتَهُمْ التَّوَكُّلُ وَالْأَدَبُ وَهَذَا هُوَ الْمَهْيَعُ الْعَامُّ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ أَكْثَرُ الْخَلَائِقِ، وَقِسْمٌ عَامَلُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمُقْتَضَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ وَعَوَائِدِهِ فِي مَمْلَكَتِهِ فَهَؤُلَاءِ جَامِعُونَ بَيْنَ التَّوَكُّلِ وَالْأَدَبِ وَهَذَا مَقَامُ الْأَنْبِيَاءِ وَخَوَاصِّ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَلِيلَ الْأَدَبِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعَمَلِ وَلِذَلِكَ هَلَكَ إبْلِيسُ وَضَاعَ أَكْثَرُ عَمَلِهِ بِقِلَّةِ أَدَبِهِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
أَنَّهُ الْمُسْتَوْلِي بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ عَلَى سَائِرِ الْكَائِنَاتِ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ لَهُ فِي ذَلِكَ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: ٢] قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ. قَالَ (وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهُ عَوَائِدُ فِي مُلْكِهِ رَتَّبَهَا بِحِكْمَتِهِ فَمُقْتَضَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ انْقِطَاعُ الْقَلْبِ عَنْ غَيْرِهِ وَمُقْتَضَى سُلُوكِ أَدَبِهِ الْتِمَاسُ فَضْلِهِ مِنْ عَوَائِدِهِ، ثُمَّ قَالَ قِسْمٌ عَامَلُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمُقْتَضَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَحَصَلُوا عَلَى حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ وَأَعْرَضُوا عَنْ الْأَسْبَابِ فَفَاتَهُمْ الْأَدَبُ الْوَاجِبُ الِاتِّبَاعِ) .
قُلْت قَدْ اعْتَرَفَ هُنَا بِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ الْمُعَامَلَةُ بِمُقْتَضَى شُمُولِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَسْبَابِ وَهُوَ عَيْنُ مَا عَابَ عَلَى الْعُبَّادِ حَيْثُ قَالَ ظَانِّينَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ هِيَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ فَقَوْلُهُ هُنَا مُنَاقِضٌ بِظَاهِرِهِ لِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّ التَّوْكِيلَ يَصِحُّ مَعَ التَّسَبُّبِ وَمَعَ عَدَمِ التَّسَبُّبِ وَأَنَّ الرُّسُلَ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ يَتَرَجَّحُ فِي حَقِّهِمْ التَّوَكُّلُ مَعَ التَّسَبُّبِ لِضَرُورَةِ اقْتِدَاءِ الْجُمْهُورِ بِهِمْ مَعَ مَا تَخْتَصُّ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْعِصْمَةِ وَأَنَّ مَنْ عَدَاهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ مُقْتَضَيَا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ يَتَرَجَّحُ فِي حَقِّهِ التَّوَكُّلُ مَعَ عَدَمِ التَّسَبُّبِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ شَائِبَةِ مُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ (وَاعْلَمْ أَنَّ قَلِيلَ الْأَدَبِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعَمَلِ وَلِذَلِكَ هَلَكَ إبْلِيسُ وَضَاعَ أَكْثَرُ عَمَلِهِ بِقِلَّةِ أَدَبِهِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الْمُحَصِّلَةِ لِلْعُلُومِ الْقَطْعِيَّاتِ فَكَيْفَ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ الَّتِي لَا تُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فَتَأَمَّلْ هَذَا
(وَثَانِيهَا) : أَنْ يَرَاهُ فِي صُورَةٍ مُسْتَحِيلَةٍ عَلَيْهِ كَمَنْ يَقُولُ: رَأَيْته فِي صُورَةِ رَجُلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْسَامِ الْمُسْتَحِيلَةِ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت اللَّهَ - تَعَالَى - فِي صُورَةِ فَرَسٍ وَفَهِمَ هَذَا الرَّائِي أَنَّ هَذَا الْجِسْمَ مِنْ إنْسَانٍ وَغَيْرِهِ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَمْرٌ وَارِدٌ مِنْ قِبَلِهِ يَقْتَضِي حَالَةً مِنْ هَذَا الرَّائِي وَيَتَقَاضَاهَا مِنْهُ أَوْ يَأْمُرُهُ بِخَيْرٍ أَوْ يَنْهَاهُ عَنْ شَرٍّ، وَيَقُولُ لَهُ: أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَامْتَثِلْ أَمْرِي وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْحَالَةُ أَيْضًا صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ عَلَى إطْلَاقِ لَفْظِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى هَذَا الْجِسْمِ فَفِي الْقُرْآنِ {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: ٢٢] فَعَبَّرَ - تَعَالَى - عَنْ أَمْرِهِ الْوَارِدِ مِنْ قِبَلِهِ بِاللَّفْظِ الْخَاصِّ بِالرُّبُوبِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ لَفْظِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ وَلَفْظِ الْمُؤَثِّرِ عَلَى الْأَثَرِ، وَهُوَ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَمَسْطُورٌ فِي كُتُبِ الْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ وَفِي التَّوْرَاةِ جَاءَ اللَّهُ مِنْ سَيْنَاءَ وَأَشْرَقَ مِنْ سَاغَيْنِ وَاسْتَعْلَنَ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ إشَارَةً إلَى التَّوْرَاةِ النَّازِلَةِ بِطُورِ سَيْنَاءَ وَالْإِنْجِيلِ النَّازِلِ بِسَاغَيْنِ مَوْضِعٌ بِالشَّامِ وَالْقُرْآنِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ فَارَانُ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَقَّ جَاءَ مِنْ سَيْنَاءَ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَكَثُرَ ظُهُورُهُ وَعَلَنُهُ بِتَقْوِيَةِ الْإِنْجِيلِ لَهُ فَإِنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بُعِثَ لِنُصْرَةِ التَّوْرَاةِ وَتَقْوِيَتِهَا وَإِرَادَةِ الْعَلَانِيَةِ وَالظُّهُورِ وَاسْتُكْمِلَ الْحَقُّ وَاسْتُوْفِيَتْ الْمَصَالِحُ وَوَصَلَ الْبَيَانُ وَالْكَمَالُ فِي الشَّرْعِ إلَى أَقْصَى غَايَتِهِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْكُتُبُ بِاسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِهَتِهِ وَقِبَلِهِ عَلَى الْمَجَازِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ ذَلِكَ «يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ» الْحَدِيثَ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّهُ تَنْزِلُ رَحْمَتُهُ فَسَمَّاهَا بِاسْمِهِ لِكَوْنِهَا مِنْ قِبَلِهِ وَمِنْ أَثَرِهِ كَذَلِكَ هَذِهِ الْمُثُلُ الْقَائِلَةُ فِي النَّوْمِ أَنَا اللَّهُ هُوَ صَحِيحٌ جَائِزٌ عَلَى الْمَجَازِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ اللَّهَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْخَلَائِقِ فِي صُورَةٍ يُنْكِرُونَهَا وَيَقُولُونَ: لَسْت رَبَّنَا» فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْتِيهِمْ فِي صُورَةٍ، وَتَسْمِيَتُهُ لِهَذِهِ الصُّورَةِ بِاسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّهَا صُورَةٌ مِنْ آثَارِهِ، وَفِتْنَةٌ يَخْتَبِرُ بِهَا خَلْقَهُ فَهَذِهِ الْمُلَازَمَةُ وَالْعَلَاقَةُ حُسْنُ إطْلَاقِ لَفْظِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَيْهَا مَجَازًا كَمَا تَقَدَّمَ فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْمُثُلُ فِي النَّوْمِ حُكْمُهَا حُكْمُ هَذِهِ الْأَجْسَامِ فِي الْيَقَظَةِ
(الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ) : أَنْ يَرَى هَذِهِ الصُّورَةَ الْحَسَنَةَ الْجِسْمِيَّةَ، وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - حَقِيقَةً، وَلَا يَخْطِرُ لَهُ فِي النَّوْمِ مَعْنَى الْمَجَازِ أَلْبَتَّةَ، فَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً، وَيَكُونَ الْمُرَادُ الْمَجَازَ، وَلَكِنَّهُ جَهْلُ الْمَجَازِ فَكَانَ الْغَلَطُ مِنْهُ لَا فِي الرُّؤْيَا بَلْ فِي الْمُرَادِ بِهَا كَمَا يَرِدُ اللَّفْظُ فِي الْيَقَظَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَجَازُ وَالسَّامِعُ يَفْهَمُ الْحَقِيقَةَ كَمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute