للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ مِنْ الدُّعَاءِ وَقَاعِدَةِ مَا لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ) اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الدُّعَاءِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دُعَاءٌ النَّدْبُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَعْرِضُ لَهُ مِنْ جِهَةِ مُتَعَلِّقِهِ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَمَا يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ وَلِذَلِكَ أَسْبَابٌ خَمْسَةٌ:

(السَّبَب الْأَوَّلُ) الْأَمَاكِنُ كَالدُّعَاءِ فِي الْكَنَائِسِ وَالْحَمَّامَاتِ وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَمَوَاضِعِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ كَالْحَانَاتِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَلِكَ الْأَسْوَاقُ الَّتِي يَغْلِبُ فِيهَا وُقُوعُ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك» أَيْ ثَنَاؤُك الْمُسْتَحَقُّ ثَنَاؤُك عَلَى نَفْسِك أَمَّا ثَنَاءُ الْخَلْقِ فَلَا لِأَنَّهُ دُونَ الْمُسْتَحَقِّ قَالَ وَلِذَلِكَ عَابَ الْعُلَمَاءُ وَغَلَّطُوا جَمَاعَةً مِنْ الْعُبَّادِ حَيْثُ تَوَسَّطُوا الْقِفَارَ مِنْ غَيْرِ زَادٍ وَلَجَّجُوا فِي الْبِحَارِ فِي زَمَنِ الْهَوْلِ أَوْ فِي غَيْرِ الزَّمَنِ الْمُعْتَادِ طَالِبِينَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى خَرْقَ عَوَائِدِهِ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ سَائِرُونَ إلَى اللَّهِ وَهُمْ ذَاهِبُونَ عَنْهُ ظَانِّينَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ هِيَ حَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ وَأَنَّ مَا عَدَاهَا يُنَافِي الِاعْتِمَادَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ فَقَدْ دَخَلَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مَكَّةَ مَخْفُوقًا بِالْخَيْلِ وَالرَّجْلِ وَالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ مُظَاهِرًا بَيْنَ دِرْعَيْنِ وَعَلَى رَأْسِهِ مِغْفَرٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَقَالَ أَوَّلَ أَمْرِهِ مَنْ يَعْصِمُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَكَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ عِنْدَ أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ مَعَ رَبِّهِ يَدَّخِرُ لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَةٍ وَهُوَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ.

وَتَحْقِيقُ هَذَا الْبَابِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ التَّوَكُّلَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَطْلُبُهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ يَكْرَهُهُ مِنْ ضَيْرٍ لِأَجْلِ أَنَّهُ الْمُسْتَوْلِي بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ عَلَى سَائِرِ الْكَائِنَاتِ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكٍ لَهُ فِي ذَلِكَ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: ٢] وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهُ عَوَائِدُ فِي مُلْكِهِ رَتَّبَهَا بِحِكْمَةٍ، فَمُقْتَضَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ انْقِطَاعُ الْقَلْبِ عَنْ غَيْرِهِ وَمُقْتَضَى سُلُوكِ أَدَبِهِ الْتِمَاسُ فَضْلِهِ مِنْ عَوَائِدِهِ، وَقَدْ انْقَسَمَ الْخَلْقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ عَامَلُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمُقْتَضَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَحَصَلُوا عَلَى حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ وَأَعْرَضُوا عَنْ الْأَسْبَابِ فَفَاتَهُمْ الْأَدَبُ الْوَاجِبُ الِاتِّبَاعِ وَقِسْمٌ لَاحَظُوا الْأَسْبَابَ وَاسْتَوْلَتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَحَجَبَتْهُمْ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَهَؤُلَاءِ فَاتَهُمْ التَّوَكُّلُ وَالْأَدَبُ وَهَذَا هُوَ الْمَهْيَعُ الْعَامُّ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ أَكْثَرُ الْخَلَائِقِ، وَقِسْمٌ عَامَلُوا اللَّهَ تَعَالَى بِمُقْتَضَى شُمُولِ قُدْرَتِهِ وَعَوَائِدِهِ فِي مَمْلَكَتِهِ فَهَؤُلَاءِ جَامِعُونَ بَيْنَ التَّوَكُّلِ وَالْأَدَبِ وَهَذَا مَقَامُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ خَوَاصِّ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا أَنَّ قَلِيلَ الْأَدَبِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعَمَلِ وَلِذَلِكَ هَلَكَ إبْلِيسُ وَضَاعَ أَكْثَرُ عَمَلِهِ بِقِلَّةِ أَدَبِهِ فَنَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَقَالَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ اجْعَلْ عَمَلَك مِلْحًا وَأَدَبَك دَقِيقًا، أَيْ لِيَكُنْ اسْتِكْثَارُك مِنْ الْأَدَبِ أَكْثَرَ مِنْ اسْتِكْثَارِك مِنْ الْعَمَلِ لِكَثْرَةِ جَدْوَاهُ وَنَفَاسَةِ مَعْنَاهُ وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ طَلَبِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: ١٩٥] أَيْ لَا تَرْكَبُوا الْأَخْطَارَ الَّتِي دَلَّتْ الْعَادَةُ عَلَى أَنَّهَا مُهْلِكَةٌ وقَوْله تَعَالَى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: ١٩٧] أَيْ الْوَاقِيَةُ لَكُمْ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى السُّؤَالِ وَالسَّرِقَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَافِرُونَ إلَى الْجِهَادِ وَالْحَجِّ بِغَيْرِ زَادٍ فَرُبَّمَا وَقَعَ بَعْضُهُمْ فِي إحْدَى الْمَفْسَدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ السُّؤَالِ وَالسَّرِقَةِ فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْتِزَامِ الْعَوَائِدِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ تَرْكَهَا فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مَنْهِيٌّ عَنْ ضِدِّهِ بَلْ إضْدَادِهِ، وَقَدْ قِيلَ لِبَعْضِهِمْ إنْ كُنْت مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ وَمُعْتَمِدًا عَلَيْهِ وَوَاثِقًا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَأَلْقِ نَفْسَك مِنْ هَذَا الْحَائِطِ فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُك إلَّا مَا قُدِّرَ لَك فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ عِبَادَهُ لِيُجَرِّبَهُمْ وَيَمْتَحِنَهُمْ لَا لِيُجَرِّبُوهُ وَيَمْتَحِنُوهُ إشَارَةً إلَى سُلُوكِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَهْلِ الْأَدَبِ مَعَهُ وَمَعَ عِبَادِهِ حَتَّى نَلْقَاهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. نَعَمْ يَجُوزُ طَلَبُ خَرْقِ الْعَادَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِلْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَرْقَهَا، وَكَذَلِكَ لِمَنْ لَهُ عَادَةٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بِخِرَقِهَا مِنْ الْأَوْلِيَاءِ لِجَرَيَانِهِ عَلَى عَادَتِهِ فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ قِلَّةُ أَدَبٍ، وَكَذَلِكَ لِمَنْ لَا يَكُونُ وَلِيًّا حَيْثُ أَرَادَ بِسُؤَالِهِ خَرْقَهَا أَنْ يَجْعَلَهُ وَلِيًّا مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ خَرْقَ الْعَادَةِ. فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ لَيْسَتْ حَرَامًا انْتَهَى.

وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الشَّاطِّ بِأَنَّ دَعْوَاهُ أَنَّ طَلَبَ خَرْقِ الْعَوَائِدِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إسَاءَةُ أَدَبٍ عَرِيَّةٌ عَنْ الْحُجَّةِ إلَّا مَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى الْمُلُوكِ وَهُوَ قِيَاسٌ لَا شَكَّ فِي فَسَادِهِ وَالْعَيْبُ وَالذَّمُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: ٩١] الْآيَةَ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا أُحْصِي ثَنَاءً الْحَدِيثَ لَا يَلْحَقُ الْبَشَرَ إلَّا إنْ كَانَ الثَّنَاءُ اللَّائِقُ بِجَلَالِهِ تَعَالَى مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ اكْتِسَابِهِمْ ثُمَّ قَصَّرُوا فِيهِ.

وَأَمَّا إنْ كَانَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ فَلَا يَلْحَقُهُمْ ذَمٌّ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: ٢٨٦] قَالَ وَتَغْلِيطُ مَنْ غَلَّطَ مِنْ الْعُلَمَاءِ جَمَاعَةَ الْعُبَّادِ فِيمَا ذَكَرَهُ غَلَطٌ مِنْ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى إسَاءَتِهِمْ الظَّنَّ بِأُولَئِكَ الْعُبَّادِ وَإِسَاءَةُ الظَّنِّ بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا فَكَيْفَ بِالْعُبَّادِ مِنْهُمْ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْعُبَّادَ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَعَوَّدَ خَرْقَ الْعَادَةِ لَهُ فَلَا عَيْبَ عَلَيْهِمْ أَوْ مِمَّنْ لَمْ يَتَعَوَّدْ ذَلِكَ فَلَا عَيْبَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا إنْ كَانُوا مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ أَحْوَالٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَهَا وَإِلَّا لَحِقَهُمْ الْعَيْبُ لِارْتِكَابِهِمْ حِينَئِذٍ لِمَمْنُوعٍ فَمَا بَالُ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ حَكَمُوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ هَذَا الْأَخِيرِ دُونَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَلَيْسَ ذَلِكَ إسَاءَةَ ظَنٍّ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>