للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلْت هَذَا بَحْثٌ حَسَنٌ غَيْرَ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ لَا بِمَنْطُوقِهِ فَإِنَّ مَنْطُوقَهُ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ يَجِبُ عِنْدَهُمَا، وَمَفْهُومَهُ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَكْفِي مِنْ جِهَةِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ وَإِذَا كَانَ الِاسْتِدْلَال بِهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ فَنَقُولُ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْطُوقِ اللَّفْظِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِمَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْمَفْهُومِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ وَغَيْرَهُ يَقُولُ الْمَفْهُومُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا.

وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا فَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ يُشْكِلُ بِمَا إذَا قَالَ لَنَا الْمُؤَذِّنُ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنَّا نُقَلِّدُهُ وَهُوَ خَبَرٌ صِرْفٌ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْأَذَانِ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَعْنَاهُ أَقْبِلُوا إلَيْهَا فَهُوَ يَدُلُّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى دُخُولِ وَقْتِهَا، وَكَذَلِكَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ.

وَأَمَّا الْمُخْبِرُ بِالْقِبْلَةِ فَلَيْسَ مُخْبِرًا عَنْ وُقُوعِ سَبَبٍ بَلْ عَنْ حُكْمٍ مُتَأَبَّدٍ فَإِنَّ نَصْبَ جِهَةِ الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ قِيَامًا لِلنَّاسِ أَمْرٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ لَا يَخْتَلِفُ بِخِلَافِ الْمُؤَذِّنِ لَا يُتَعَدَّى حُكْمُهُ وَإِخْبَارُهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَالْمُخْبِرُ عَنْ الْقِبْلَةِ أَشْبَهُ بِالرِّوَايَةِ مِنْ الْمُؤَذِّنِ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْفُرُوقَ وَهَذِهِ التَّرْجِيحَاتِ فَهِيَ حَسَنَةٌ، وَكُلُّهَا إنَّمَا ظَهَرَتْ بَعْدَ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ فَلَوْ خَفِيَتَا ذَهَبَتْ هَذِهِ الْمَبَاحِثُ جُمْلَتُهَا وَلَمْ يَظْهَرْ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْقَرِيبِ مِنْهَا لِلْقَوَاعِدِ وَالْبَعِيدِ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

وَلَمْ يَظْهَرْ التَّفَاوُتُ فِيهَا بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ) قُلْتُ مِنْ مُضْمَنِ هَذَا الْفَصْلِ مُوَافَقَتُهُ لِمَوْرِدِ السُّؤَالِ عَلَى اسْتِوَاءِ الْأَذَانِ وَمَيْلِ الظِّلِّ وَزِيَادَتِهِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مَيْلَ الظِّلِّ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ وَالْأَذَانَ دَلَالَتُهُ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ وَلَا خَفَاءَ بِأَنَّ مَا دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ لَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى الِاسْتِظْهَارِ بِخِلَافِ مَا دَلَالَتُهُ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ، وَمِنْ مُضْمَنِهِ جَوَابُهُ عَنْ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ لَا بِمَنْطُوقِهِ.

وَمَا قَالَهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ صَحِيحٌ وَمِنْ مُضْمَنِهِ جَوَابُهُ عَنْ الْجَوَابِ الثَّانِي بِأَنَّهُ يُشْكِلُ بِمَا إذَا قَالَ لَنَا الْمُؤَذِّنُ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنَّا نُقَلِّدُهُ وَهُوَ خَبَرٌ صِرْفٌ قُلْتُ قَوْلُهُ: فَإِنَّا نُقَلِّدُهُ إنْ أَرَادَ إنَّا نُقَلِّدُهُ بِاتِّفَاقٍ فَذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ الْخِلَافَ فِي التَّقْلِيدِ فِي الْأَوْقَاتِ مَعْرُوفٌ، وَإِنْ أَرَادَ فَإِنَّا نُقَلِّدُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّمَا ثَبَتَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَصَحِيحِ النَّظَرِ تَقْلِيدُ الْمُؤَذِّنِ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ إذَا أَذَّنَ لَا إذَا أَخْبَرَ بِدُخُولِهِ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي هَاهُنَا أَنْ لَا تَقْلِيدَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَصَبَ دَلِيلًا مُعَيَّنًا فَلَا يُتَعَدَّى مَا نَصَبَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ مُضْمَنِهِ قَوْلُهُ أَنَّ قَوْلَ الْمُؤَذِّنِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ يَدُلُّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ قُلْت: ذَلِكَ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ أَغْفَلَ دَلَالَةَ الْأَذَانِ بِجُمْلَتِهِ عَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ، وَهِيَ دَلَالَةٌ عُرْفِيَّةٌ لِلشَّرْعِ بِالْمُطَابَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لِذَلِكَ وَضَعَهُ الشَّارِعُ مَعَ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ دَالٌّ عَلَى مُقْتَضَاهُ دَلَالَةً لُغَوِيَّةً بِالْمُطَابَقَةِ أَيْضًا، وَمِنْ مُضْمَنِهِ قَوْلُهُ إنَّ الْمُخْبِرَ عَنْ الْقِبْلَةِ مُخْبِرٌ عَنْ حُكْمٍ مُتَأَبَّدٍ، وَأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالرِّوَايَةِ مِنْ الْمُؤَذِّنِ قُلْتُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ اجْتِهَادٍ فَإِنْ أَخْبَرَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ فَلَا فَرْقَ،.

وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْفَرْقِ بِأَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْ الْقِبْلَةِ مُخْبِرٌ بِحُكْمٍ مُتَأَبَّدٍ بِخِلَافِ الْمُؤَذِّنِ فَإِنَّهُ مُخْبِرٌ بِحُكْمٍ غَيْرِ مُتَأَبَّدٍ لَا يَصْلُحُ فَارِقًا، وَإِنْ أَخْبَرَ عَنْ اجْتِهَادٍ فَالْفَرْقُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ وَفِي الْوَقْتِ أَوْ عَدَمِ جَوَازِهِ أَوْ جَوَازِهِ

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

قَرَائِنَ تَحَصُّلِ الظَّنِّ فَافْهَمْ.

(وَالْمُنَاسَبَةُ) فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ إلْزَامَ الْمُعَيَّنِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي الشَّهَادَةِ تُتَوَقَّعُ فِيهِ عَدَاوَةٌ بَاطِنِيَّةٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا الْحَاكِمُ، فَيَنْبَعِثُ الْعَدُوُّ عَلَى إلْزَامِ عَدُوِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ فَاحْتَاطَ الشَّارِعُ لِذَلِكَ وَاشْتَرَطَ مَعَهُ آخَرَ إبْعَادًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ فَإِذَا اتَّفَقَا فِي الْمَقَالِ قَرُبَ الصِّدْقُ جِدًّا بِخِلَافِ الْوَاحِدِ، وَالرِّوَايَةُ مِنْ حَيْثُ عُمُومُ مُقْتَضَاهَا غَالِبًا يَكْفِي فِيهَا الْوَاحِدُ إذْ لَا يُتَّهَمُ أَحَدٌ فِي عَدَاوَةِ جَمِيعِ الْخَلْقِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الِاسْتِظْهَارِ بِالْغَيْرِ فَبَابُ الرِّوَايَةِ بَعِيدٌ عَنْ التُّهَمِ جِدًّا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْعَدْلَ إذَا رَوَى حَدِيثًا يَتَضَمَّنُ عِتْقَهُ أَنَّهُ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ فِيهِ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ نَفْعَهُ نَظَرًا لِكَوْنِ الْعُمُومِ مُوجِبًا لِعَدَمِ التُّهْمَةِ فِي الْخُصُوصِ مَعَ وَازِعِ الْعَدَالَةِ كَمَا رَآهُ بَعْضُ مَشَايِخِ الْقَرَافِيِّ الْمُعْتَبَرِينَ مَنْقُولًا.

(وَالْمُنَاسَبَةُ) فِي اشْتِرَاطِ الذُّكُورِيَّةِ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إلْزَامَ الْمُعَيَّنِ سُلْطَانٌ وَغَلَبَةٌ وَقَهْرٌ وَاسْتِيلَاءٌ تَأْبَاهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ وَتَمْنَعُهُ الْحَمِيَّةُ، وَهُوَ مِنْ النِّسَاءِ أَشَدُّ نِكَايَةً لِنُقْصَانِهِنَّ فَإِنَّ اسْتِيلَاءَ النَّاقِصِ أَشَدُّ فِي ضَرَرِ الِاسْتِيلَاءِ فَخَفَّفَ ذَلِكَ عَنْ النُّفُوسِ بِدَفْعِ الْأُنُوثَةِ وَقَبُولِ شَهَادَةِ الْأُنْثَى فِي الْأَمْوَالِ وَفِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ فِيهَا اطِّلَاعُ الرِّجَالِ إنَّمَا كَانَ لِإِلْجَاءِ الضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ، وَالْقَوَاعِدُ يُسْتَثْنَى مِنْهَا مَحَالُّ الضَّرُورَاتِ، ثُمَّ إنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ فِي مَحَلِّ تَعَذُّرِ اطِّلَاعِهِ الْإِطْلَاقِيِّ، وَجَعَلَهَا مِثْلَهُ بِشَرْطِ الِاسْتِظْهَارِ بِأُخْرَى فِي مَحَلِّ تَعَذُّرِ اطِّلَاعِهِ الِاتِّفَاقِيِّ؛ لِأَنَّ إذْعَانَ النُّفُوسِ بِمُقْتَضَى الضَّرُورَاتِ الْإِطْلَاقِيَّةِ أَشَدُّ مِنْ إذْعَانِهَا بِمُقْتَضَى الضَّرُورَاتِ الِاتِّفَاقِيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(الثَّانِي) أَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ حَيْثُ خُصُوصُ مُقْتَضَاهَا وَالنِّسَاءُ نَاقِصَاتٌ عَقْلٍ وَدِينٍ نَاسَبَ أَنْ لَا يُنَصَّبْنَ نَصْبًا عَامًّا فِي مَوَارِدِهَا لِئَلَّا يَعُمَّ ضَرَرُهُنَّ بِالنِّسْيَانِ وَالْغَلَطِ بِخِلَافِ مُقْتَضَى الرِّوَايَةِ فَإِنَّهُ عَامٌّ، وَالْأُمُورُ الْعَامَّةُ تَتَأَسَّى فِيهَا النُّفُوسُ وَيَتَسَلَّى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فَيَخِفُّ الْأَلَمُ، وَأَيْضًا قَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ أَحَدٌ فِي عَدَاوَةِ جَمِيعِ الْخَلْقِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَافْهَمْ.

٢ -

(وَالْمُنَاسَبَةُ) فِي اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَيْضًا

(أَحَدُهُمَا) أَنَّ النُّفُوسَ الْأَبِيَّةَ تَأْبَى قَهْرَهَا بِالْعَبِيدِ الْأَدْنَى كَمَا تَأْبَاهُ بِالنِّسَاءِ

<<  <  ج: ص:  >  >>