إلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِئْذَانِ وَالْهَدِيَّةِ، فَهَذِهِ عَشْرُ مَسَائِلَ تُحَرِّرُ قَاعِدَتَيْ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ بِوُجُودِ أَشْبَاهِهِمَا فِيهَا، وَتُؤَكِّدُ ذَلِكَ تَأَكُّدًا وَاضِحًا فِي نَفْسِ الْفَقِيهِ بِحَيْثُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ تَخْرِيجُ جَمِيعِ فُرُوعِ الْقَاعِدَتَيْنِ عَلَيْهِمَا، وَمَعْرِفَةُ الْفَرْعِ الْقَرِيبِ مِنْ الْقَاعِدَةِ مِنْ الْبَعِيدِ عَنْهَا وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذِهِ الْعَشْرِ خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ.
(تَنْبِيهٌ)
قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ قَالَ مَالِكٌ يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَصَّابِ فِي الذَّكَاةِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا وَمَنْ مِثْلُهُ يَذْبَحُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ أَوْ الشَّهَادَةِ بَلْ الْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ فَإِذَا قَالَ الْكَافِرُ هَذَا مَالِي أَوْ هَذَا الْعَبْدُ رَقِيقٌ لِي صُدِّقَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ هَذِهِ ذَكِيَّةٌ فَهُوَ مُؤْتَمَنٌ فِيهِ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَيَّ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُقَرِّرَةِ لِلْمِلْكِ مِنْ الْإِرْثِ وَالِاكْتِسَابِ بِالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ مُؤْتَمَنٌ إذْ كُلُّ أَحَدٍ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ مِمَّا هُوَ تَحْتَ يَدِهِ فِي أَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ أَوْ مِلْكُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْوِي لَنَا دِينًا وَلَا يَشْهَدُ عِنْدَنَا فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ بَلْ هَذَا مِنْ بَابِ التَّأْمِينِ الْمُطْلَقِ كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا قَالَ هَذَا مِلْكِي أَوْ هَذِهِ أَمَتِي لَمْ نَعُدَّهُ رَاوِيًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَإِلَّا لَاشْتَرَطْنَا فِيهِ الْعَدَالَةَ وَلَا شَاهِدًا بَلْ نَقْبَلُهُ مِنْهُ.
وَإِنْ كَانَ أَفْسَقَ النَّاسِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْفُرُوعِ الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنْ قُلْتَ مَا قَرَّرْتَهُ مِنْ أَنَّ الشَّهَادَةَ حَقِيقَتُهَا التَّعَلُّقُ بِجُزْئِيٍّ، وَالرِّوَايَةَ حَقِيقَتُهَا التَّعَلُّقُ بِكُلِّيٍّ لَا يَطَّرِدُ وَلَا يَنْعَكِسُ أَمَّا الشَّهَادَةُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اجْتِمَاعِ شَبَهِ الرِّوَايَةِ مَعَهَا فَقَدْ تَقَعُ فِي الْأَمْرِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ كَالشَّهَادَةِ بِالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالنَّسَبِ الْمُتَفَرِّعِ بَيْنَ الْأَنْسَابِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَوْنُ الْأَرْضِ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا يَنْبَنِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الصُّلْحِ أَوْ أَحْكَامُ الْعَنْوَةِ مِنْ كَوْنِهَا طَلْقًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ وَقْفًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّظَائِرِ كَمَا اخْتَصَّتْ الشَّهَادَةُ بِجُزْئِيٍّ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا فِي الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ النَّجَاسَةِ وَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَإِذَا وَقَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْجُزْئِيِّ وَالْكُلِّيِّ لَمْ تَكُنْ نِسْبَةُ أَحَدِهِمَا إلَى الْجُزْئِيِّ أَوْ الْكُلِّيِّ أَوْلَى مِنْ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قُلْت هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مَعْنَى الَّتِي قَبْلَهَا كَمَا ذَكَرَ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (تَنْبِيهٌ
قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ قَالَ مَالِكٌ يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَصَّابِ إلَى قَوْلِهِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْفُرُوعِ الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ) قُلْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ تَيْنِكَ الْقَاعِدَتَيْنِ فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْمَسْأَلَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَمَا ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ مِمَّا هُوَ تَحْتَ يَدِهِ إنَّمَا الْمَعْنَى بِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ أَوْ مُصَدَّقٌ أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِرَفْعِ يَدِهِ عَنْهُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ مُحِقٌّ عِنْدَنَا فِي دَعْوَاهُ، وَمَسْأَلَةُ الْقَصَّابِ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بَلْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمَسْأَلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ تَرْكَهُ وَمَا يَدَّعِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مِلْكِ مَا تَحْتَ يَدِهِ، بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهَا هَلْ يُسْتَبَاحُ أَكْلُهَا بِنَاءً عَلَى خَبَرِهِ أَمْ لَا، فَلَا أَعْلَمُ لِتَجْوِيزِ الِاسْتِبَاحَةِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ إلَّا إلْجَاءَ الضَّرُورَةِ إلَى ذَلِكَ لِلُزُومِ الْمَشَقَّةِ عَنْ عَدَمِ التَّجْوِيزِ مَعَ نُدُورِ الْخُلُوِّ عَنْ الْقَرَائِنِ الْمُحَصِّلَةِ لِلظَّنِّ كَمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ (فَإِنْ قُلْتَ مَا قَرَّرْتَهُ مِنْ أَنَّ الشَّهَادَةَ حَقِيقَتُهَا التَّعَلُّقُ بِجُزْئِيٍّ، وَالرِّوَايَةَ حَقِيقَتُهَا التَّعَلُّقُ بِكُلِّيٍّ لَا يَطَّرِدُ وَلَا يَنْعَكِسُ إلَى قَوْلِهِ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ أَنَّ زَيْدًا ابْنُ عَمْرٍو وَلَيْسَ ابْنَ خَالِدٍ وَهُوَ حُكْمٌ جُزْئِيٌّ عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ، وَيَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ الْمُوجِبِ لِلْعَدَاوَةِ مَا يَتَطَرَّقُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ الدُّنْيَوِيِّ.
(وَثَانِيهَا) الْمُتَرْجِمُ لِلْفَتَاوَى وَالْخُطُوطِ قَالَ مَالِكٌ يَكْفِي الْوَاحِدُ قِيلَ لِأَنَّ فِيهِ شِبْهَ الرِّوَايَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ نُصِّبَ نَصْبًا عَامًّا لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَخْتَصُّ نَصْبُهُ بِمُعَيَّنٍ، وَأَنَّ تَرْجَمَةَ مَا ذَكَرَ إنَّمَا تَكُونُ بِنَصْبِ الْحَاكِمِ مَنْ يَرَاهُ أَهْلًا لِذَلِكَ إلَى آخِرِ مَا مَرَّ فِي الْقَائِفِ، وَقَدْ عَلِمْت ضَعْفَهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ شِبْهَ الشَّهَادَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ مُعَيَّنٍ مِنْ الْفَتَاوَى وَالْخُطُوطِ لَا يَتَعَدَّى إخْبَارُهُ ذَلِكَ الْخَطَّ الْمُعَيَّنَ أَوْ الْكَلَامَ الْمُعَيَّنَ وَلَا خَفَاءَ فِي ضَعْفِ هَذَا الشَّبَهِ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ فِيهِ التَّفْصِيلُ وَهُوَ أَنَّ التَّرْجَمَةَ تَابِعَةٌ لِمَا هِيَ تَرْجَمَةٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ نَوْعِ الرِّوَايَةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ فَكَذَلِكَ (وَثَالِثُهَا) الْمُقَوِّمُ لِلسِّلَعِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَالسَّرِقَاتِ وَالْغُصُوبِ وَغَيْرِهَا.
قَالَ مَالِكٌ يَكْفِي الْوَاحِدُ فِي التَّقْوِيمِ إلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْقِيَمِ حَدٌّ كَالسَّرِقَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ قِيلَ لِمَا فِيهِ مِنْ شِبْهِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَدٍّ لِمَا لَا يَتَنَاهَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُتَرْجِمِ وَالْقَائِفِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَضْعِيفَهُ وَمِنْ شِبْهِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ يَنْفُذُ فِي الْقِيمَةِ وَالْحَاكِمُ يُنَفِّذُهُ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَظْهَرَ مِنْ شِبْهِ الرِّوَايَةِ إلَّا أَنَّهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَلِمَا فِيهِ مِنْ شِبْهِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ إلْزَامٌ لِمُعَيَّنٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ فَيُرَاعَى فِيهِ شَبَهَا الرِّوَايَةِ وَالْحُكْمِ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِإِخْبَارِهِ حَدٌّ فَيَتَعَيَّنُ مُرَاعَاةُ الشَّهَادَةِ لِقُوَّةِ مَا يُفْضِي إلَيْهِ هَذَا الْإِخْبَارُ وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ إبَاحَةِ عُضْوِ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ، وَرُوِيَ وَلَا بُدَّ فِي التَّقْوِيمِ مِنْ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الشَّهَادَةِ عَلَى الصَّحِيحِ لِتَرَتُّبِ فَصْلِ الْقَضَاءِ بِإِلْزَامِ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ مِنْ الْعِوَضِ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَرَابِعُهَا) الْقَاسِمُ قَالَ مَالِكٌ يَكْفِي الْوَاحِدُ وَالْأَحْسَنُ اثْنَانِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونُسِيُّ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ وَمِثْلُهُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ، وَمَنْشَأُ ذَلِكَ حُصُولُ شِبْهِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ اسْتَنَابَهُ فِي ذَلِكَ فَيَكْفِي الْوَاحِدُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا أَوْ شِبْهِ التَّقْوِيمِ