وَالتَّكْذِيبَ تَابِعٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَيَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَرْقَ مَا بَيْنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَالْخَبَرِ وَالْمُتَعَلِّقِ وَالْمُتَعَلَّقِ بِهِ.
وَقَوْلُنَا لِذَاتِهِ احْتِرَازٌ مِنْ تَعَذُّرِ الصِّدْقِ أَوْ الْكَذِبِ فِيهِ لِأَجْلِ الْمُخْبَرِ بِهِ أَوْ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، فَالْأَوَّلُ كَخَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ خَبَرِ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْكَذِبَ، وَالثَّانِي كَقَوْلِنَا الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْكَذِبَ أَوْ الْوَاحِدُ نِصْفُ الْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الصِّدْقَ، وَلَكِنْ جَمِيعُ هَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْمُخْبَرِ بِهِ أَوْ الْمُخْبَرِ عَنْهُ تَقْبَلُهُمَا مِنْ حَيْثُ هِيَ إخْبَارٌ، فَهَذَا هُوَ حَدُّ الْخَبَرِ الضَّابِطِ لَهُ فَإِنْ قُلْتَ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ ضِدَّانِ وَالضِّدَّانِ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا فَلَا يَقْبَلُ مَحِلُّهُمَا إلَّا أَحَدَهُمَا أَمَّا هُمَا مَعًا فَلَا، وَإِذَا كَانَ الْمَحِلُّ لَا يَقْبَلُ إلَّا أَحَدَهُمَا كَانَ الْمُتَعَيَّنُ فِي الْحَدِّ هُوَ صِيغَةُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
وَالْكَذِبُ أَسْبَقُ لُحُوقًا بِالْخَبَرِ الْمُصَدَّقِ أَوْ الْمُكَذَّبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كَوْنَهُ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا هُوَ السَّبَبُ فِي تَصْدِيقِهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ، فَقَدْ لَزِمَهُ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ أَوْلَى بِالْخَبَرِ وَأَحَقُّ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَأَنَّ التَّصْدِيقَ أَوْ التَّكْذِيبَ إنَّمَا لَحِقَاهُ لِصِدْقِهِ أَوْ كَذِبِهِ، وَقَدْ نَصَّ هُوَ بَعْدَ هَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَيَّلَ بِهَا الْكَلَامَ عَلَى الْخَبَرِ عَلَى أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ خَصِيصَةٌ مِنْ خَصَائِصِ الْخَبَرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكَلَامُهُ كُلُّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ ضَعِيفٌ سَاقِطٌ وَاضِحُ الضَّعْفِ وَالسُّقُوطِ.
وَقَوْلُهُ وَقَوْلُنَا لِذَاتِهِ احْتِرَازٌ مِنْ تَعَذُّرِ الصِّدْقِ أَوْ الْكَذِبِ فِيهِ لِأَجْلِ الْمُخْبَرِ بِهِ أَوْ الْمُخْبَرِ عَنْهُ إلَى آخِرِ الْفَصْلِ قُلْت قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَوْلَى الْحَدُّ أَوْ الرَّسْمُ بِأَنَّ الْخَبَرَ قَوْلٌ يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ، وَلُزُومُ أَحَدِهِمَا لَهُ لَا يُمْكِنُ سَوَاءً فَقَوْلُهُ لِذَاتِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُ احْتِرَازٌ مِنْ تَعَذُّرِ الصِّدْقِ أَوْ الْكَذِبِ فِيهِ لِأَجْلِ الْمُخْبَرِ بِهِ أَوْ الْمُخْبَرِ عَنْهُ قُلْت: إذَا حُدَّ أَوْ رُسِمَ بِلُزُومِ الصِّدْقِ أَوْ الْكَذِبِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى التَّحَرُّزِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ حَدُّهُ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ الْقَوْلُ الْمُحْتَمِلُ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَقَوْلُهُ لَكِنْ جَمِيعُ هَذِهِ الْإِخْبَارَاتِ بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهَا تَقْبَلُهُمَا مِنْ حَيْثُ هِيَ أَخْبَارٌ قُلْت هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قَبُولِ الْخَبَرِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَبَرٌ مُقْتَضَاهُ أَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ هُوَ خَبَرٌ يَقْبَلُ الْكَذِبَ لِذَاتِهِ، وَمَا هُوَ ذَاتِيٌّ لَا يَتَبَدَّلُ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ خَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقْبَلَ الْكَذِبَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقْبَلَ الْكَذِبَ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَبُولِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ كَالْجَوْهَرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَبُولِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَسَائِرِ الْأَلْوَانِ، فَإِنَّ الْخَبَرَ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يَعْرَى أَلْبَتَّةَ عَنْ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا فَمَا ثَبَتَ صِدْقُهُ لَا يَصِحُّ كَذِبُهُ بَعْدُ، وَمَا ثَبَتَ كَذِبُهُ لَا يَصِحُّ صِدْقُهُ بَعْدُ لِاسْتِحَالَةِ ارْتِفَاعِ الْوَاقِعِ، وَالْجَوْهَرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عُرْوَةً جَائِزًا، وَإِمَّا مُمْتَنِعًا وَإِمَّا مَشْكُوكًا عَلَى حَسَبِ اضْطِرَابِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَمَا ثَبَتَ سَوَادُهُ يَصِحُّ بَيَاضُهُ بَعْدُ، وَمَا ثَبَتَ بَيَاضُهُ يَصِحُّ سَوَادُهُ بَعْدُ، فَمَا قَالَهُ هُنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: (فَإِنْ قُلْت الصِّدْقُ وَالْكَذِبَ ضِدَّانِ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا فَلَا يَقْبَلُ مَحِلُّهُمَا إلَّا أَحَدَهُمَا، وَإِذَا كَانَ لَا يَقْبَلُ إلَّا أَحَدَهُمَا كَانَ الْمُتَعَيَّنُ فِي الْحَدِّ صِيغَةً)
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ قَالَ لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ نَرَاهُ فَقُلْت أَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَا هَكَذَا أَمَرَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فَظَاهِرُ هَذَا الْأَثَرِ يَقْتَضِي أَنَّ لِكُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتَهُ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ وَالنَّظَرُ يُعْطِي الْفَرْقَ بَيْنَ الْبِلَادِ النَّائِيَةِ كَالْأَنْدَلُسِ وَالْحِجَازِ لَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لِاخْتِلَافِ مَطَالِعِهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَبِخَاصَّةٍ مَا كَانَ نَأْيُهُ الْعَرْضَ كَثِيرًا، وَبَيْنَ الْقَرِيبَةِ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّهَا فِي قِيَاسِ الْأُفُقِ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ تَخْتَلِفْ مَطَالِعُهَا كُلَّ الِاخْتِلَافِ.
اهـ بِتَلْخِيصٍ وَتَصَرُّفٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لَمْ يُعَمِّمُوا رُؤْيَةَ الْهِلَالِ فِي قُطْرِ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ كَمَا زَعَمَ الْمُعْتَرِضُ بَلْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي قُطْرٍ كَالْحِجَازِ لَا تُوجِبُ حُكْمًا عَلَى مَنْ لَمْ يَرَهُ بِقَطْرٍ نَاءٍ عَنْ الْحِجَازِ كَالْأَنْدَلُسِ لِاخْتِلَافِ الْمَطْلَعَيْنِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا بِحَيْثُ يَكُونُ الْغُرُوبُ فِي الْحِجَازِ زَوَالًا فِي الْأَنْدَلُسِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَالْمِصْرِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ وُجُوبَ الْحُكْمِ بِرُؤْيَتِهِ فِي الْحِجَازِ عَلَى مَنْ لَمْ يَرَهُ بِقُطْرٍ غَيْرِ نَاءٍ كَالْمَدِينَةِ وَمِصْرَ بِحَيْثُ لَا يُخَالِفُ مَطْلَعُهُ مَطْلَعَ الْحِجَازِ كَثِيرًا بَلْ بِنَحْوِ الدَّرَجَةِ وَالدَّرَجَتَيْنِ، وَعَدَمُ اعْتِبَارِ هَذَا الِاخْتِلَافِ الْيَسِيرِ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ وَاعْتِبَارُهُ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ نَظَرًا لِكَوْنِ اعْتِبَارِهِ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ يُؤَدِّي لِلصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ بِخِلَافِهِ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ بَلْ قَدْ اسْتَدَلَّ السَّادَةُ الْحَنَابِلَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ بِمَكَانٍ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا إذَا ثَبَتَتْ لَزِمَ النَّاسَ كُلَّهُمْ الصَّوْمُ، وَأَنَّ حُكْمَ مَنْ لَمْ يَرَهُ حُكْمُ مَنْ رَآهُ، وَلَوْ اخْتَلَفَتْ الْمَطَالِعُ نَصًّا قَالَ أَحْمَدُ الزَّوَالُ فِي الدُّنْيَا وَاحِدٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» وَهُوَ خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ كَافَّةً، وَبِأَنَّ الشَّهْرَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَكَذَا الصَّوْمُ، وَلَوْ فُرِضَ الْخِطَابُ فِي الْخَبَرِ لِلَّذِينَ رَأَوْهُ فَالْغَرَضُ حَاصِلٌ؛ لِأَنَّ مِنْ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ وَفَوَائِدِهَا مَا إذَا رَآهُ جَمَاعَةٌ بِبَلَدٍ ثُمَّ سَافَرُوا إلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ فَلَمْ يَرَ الْهِلَالَ بِهِ فِي آخِرِ الشَّهْرِ مَعَ غَيْمٍ أَوْ صَحْوٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ الْفِطْرُ وَلَا لِأَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ