وَتَمَسَّكَ بِهِ مَالِكٌ عَلَى إطْلَاقِهِ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ مُقَيَّدًا فِي قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: ٢١٧] فَيَجِبُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَلَا يَحْبَطُ الْعَمَلُ إلَّا بِالْوَفَاةِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ مُقَيِّدَةً لِلْآيَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا رُتِّبَ فِيهَا مَشْرُوطَانِ وَهُمَا الْحُبُوطُ وَالْخُلُودُ عَلَى شَرْطَيْنِ وَهُمَا الرِّدَّةُ وَالْوَفَاةُ عَلَى الْكُفْرِ وَإِذَا رُتِّبَ مَشْرُوطَانِ عَلَى شَرْطَيْنِ أَمْكَنَ التَّوْزِيعُ فَيَكُونُ الْحُبُوطُ الْمُطْلَقُ الرِّدَّةَ وَالْخُلُودَ لِأَجْلِ الْوَفَاةِ عَلَى الْكُفْرِ فَيَبْقَى الْمُطْلَقُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرْطَيْنِ شَرْطٌ فِي الْإِحْبَاطِ فَلَيْسَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الْمَبَاحِثِ سُؤَالًا وَجَوَابًا.
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) وَرَدَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَوَرَدَ «وَتُرَابُهَا طَهُورًا» قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِغَيْرِ التُّرَابِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ فَإِنَّ الْأَوَّلَ عَامٌّ كُلِّيَّةً لَا يَصِحُّ فِيهِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْكُلِّيِّ دُونَ الْكُلِّيَّةِ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِذِكْرِ بَعْضِهِ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ فَأَصَابَ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْإِشْكَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا أَصَابَ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ حَرْفًا بِحَرْفٍ.
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
فَلَا يُحْبَطُ الْعَمَلُ إلَّا بِالْوَفَاةِ عَلَى الْكُفْرِ قُلْت مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ هُوَ الْأَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ (وَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ مُقَيِّدَةً لِلْآيَةِ الْأُولَى إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ) قُلْت لَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ عِنْدِي بِصَحِيحٍ وَقَوْلُهُ إذَا رُتِّبَ مَشْرُوطَانِ عَلَى شَرْطَيْنِ أَمْكَنَ التَّوْزِيعُ صَحِيحٌ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَصِحَّ اسْتِقْلَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَشْرُوطَيْنِ عَنْ الْآخَرِ أَمَّا إذَا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِقْلَالُ فَلَا وَالْمَشْرُوطَانِ مِمَّا فِيهِ الْكَلَامُ مِنْ الضَّرْبِ الثَّانِي الَّذِي لَا يَصِحُّ فِيهِ اسْتِقْلَالُ أَحَدِ الْمَشْرُوطَيْنِ عَنْ الْآخَرِ لِأَنَّهُمَا سَبَبٌ وَمُسَبَّبٌ وَالسَّبَبُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ مُسَبَّبِهِ وَبِالْعَكْسِ فَالْأَمْرُ فِي جَوَابِهِ لَيْسَ كَمَا زَعَمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَمَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ صَحِيحٌ.
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
بَابِ تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ فَلِلْمُوَكِّلِ بَيْعُ مَا مَلَكَ وَأَنْ يُمَكِّنَ مِنْهُ غَيْرَهُ مَا لَمْ يَكُنْ الْمُوَكَّلُ عَلَيْهِ لَا يَقْبَلُ الْبَدَلَ كَتَوْكِيلِهِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ الَّذِي عِنْدَ مُرْتَهِنٍ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ إبْدَالَ مَنْ وُكِّلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالْوَكِيلِ وَفِي خِصَامٍ إذَا قَاعَدَ الْوَكِيلُ الْخَصْمَ كَثَلَاثٍ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إبْدَالُ الْوَكِيلِ كَمَا فِي خَلِيلٍ وَشَرْحِهِ (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) عَقْدُ كُلٍّ مِنْ الْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُغَارَسَةِ يَقْتَضِي أَنَّ رَبَّ الْمَالِ مَلَكَ مِنْ الْعَامِلِ الِانْتِفَاعَ لَا الْمَنْفَعَةَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَى مَا مَلَكَهُ مِنْ الْعَامِلِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يُؤَاجِرَهُ مِمَّنْ أَرَادَ بَلْ يَقْتَصِرَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِنَفْسِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ وَأَمَّا مَا مَلَكَهُ الْعَامِلُ فِي الْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ فَهُوَ مِلْكُ عَيْنٍ لَا مِلْكُ مَنْفَعَةٍ وَلَا انْتِفَاعٍ وَتِلْكَ الْعَيْنُ هِيَ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَةٍ فِي الْمُسَاقَاةِ أَوْ يَحْصُلُ مِنْ رِبْحٍ فِي الْقِرَاضِ فَيَمْلِكُ نَصِيبَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ.
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) ظَاهِرُ قَوْلِ الْوَاقِفِ وَقَفْت هَذَا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهُ أَوْ عَلَى سُكْنَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ مَثَلًا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ إنَّمَا مَلَّكَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعَ بِالسُّكْنَى دُونَ الْمَنْفَعَةِ فَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَاجِرَ غَيْرَهُ وَلَا أَنْ يُسَكِّنَهُ دَائِمًا أَوْ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ وَلَا أَنْ يَجْعَلَهُ لِخَزْنِ الْقَمْحِ أَوْ غَيْرِهِ دَائِمًا أَوْ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ وَأَمَّا إنْزَالُ الضَّيْفِ وَخَزْنُ الْقَمْحِ وَغَيْرِهِ الْمُدَّةَ الْيَسِيرَةَ فِي الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ لِأَهْلِهَا لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمَّا جَرَتْ بِذَلِكَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ يَسْمَحُ فِي ذَلِكَ وَمِمَّا يُحْمَلُ عَلَى تَمْلِيكِ الِانْتِفَاعِ لَا تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ الصِّيغَةُ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْ الْوَاقِفِ تَحْتَمِلُهَا وَشَكَكْنَا فِي تَنَاوُلِهَا الْمَنْفَعَةَ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْأَمْلَاكِ عَلَى مِلْكِ أَرْبَابِهَا وَالنَّقْلُ وَالِانْتِقَالُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَلِذَا مَتَى شَكَكْنَا فِي رُتَبِ الِانْتِقَالِ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَدْنَى الرُّتَبِ اسْتِصْحَابًا لِلْأَصْلِ فِي الْمِلْكِ السَّابِقِ وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسَائِلُ فِي الْمَذْهَبِ وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْلُ الْوَاقِف إمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا فِي تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ يُنْتَفَعُ بِالْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ أَوْ بِالْقَرَائِنِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِالْمَنْفَعَةِ مِنْ الْأُمُورِ الْعَادِيَةِ فِي الصِّيغَةِ الْمُحْتَمِلَةِ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ لَا الِانْتِفَاعِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا فِي تَمْلِيكِ الِانْتِفَاعِ كَقَوْلِهِ وَقَفْته عَلَى أَنْ يُسْكَنَ أَوْ عَلَى السُّكْنَى وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الِانْتِفَاعِ لَا الْمَنْفَعَةِ كَمَا إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِتَمْلِيكِ الِانْتِفَاعِ أَوْ تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِلَا قَرِينَةٍ حَتَّى حَصَلَ الشَّكُّ فِي تَنَاوُلِهَا لِلْمَنْفَعَةِ لِوُجُوبِ حَمْلِهِ حِينَئِذٍ عَلَى أَدْنَى الرُّتَبِ اسْتِصْحَابًا لِلْأَصْلِ فِي الْمِلْكِ السَّابِقِ لِلْقَاعِدَةِ الْمَارَّةِ وَكَذَلِكَ يَجْرِي فِيمَا كَانَ مِنْ بَابِ تَمْلِيكِ الْأَعْيَانِ وَقَدْ شَهِدَتْ الْعَادَةُ وَأَلْفَاظُ الْوَاقِفِينَ بِقَصْرِهِ عَلَى جِهَةٍ خَاصَّةٍ نَحْوَ مَا يُوقَفُ فِي الْمَدَارِسِ وَالْخَوَانِكِ مِنْ الصَّهَارِيجِ لِمَاءِ الشُّرْبِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَاءِ الْمَذْكُورِ وَلَا هِبَتُهُ لِلنَّاسِ وَلَا صَرْفُهُ لِنَفْسِهِ فِي وُجُوهٍ غَرِيبَةٍ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهَا كَالصَّبْغِ وَبَيَاضِ الْكَتَّانِ بِأَنْ يَكُونَ صَبَّاغًا مُبَيِّضًا لِلْكَتَّانِ فَيُصْرَفُ ذَلِكَ الْمَاءُ فِي الصَّبْغِ وَالْبَيَاضِ دَائِمًا لِأَنَّ الْعَادَةَ وَأَلْفَاظَ الْوَاقِفِينَ شَهِدَتْ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ لِلشُّرْبِ فَقَطْ نَعَمْ يَجُوزُ صَرْفُهُ لِلصَّبْغِ الْيَسِيرِ وَالْبَيَاضِ الْيَسِيرِ وَنَحْوِهِ وَنَحْوَ الْحُصْرِ وَالْبُسُطِ الْمَفْرُوشَةِ فِي الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطُ لَا تَسْتَعْمِلُ الْأَوْطَاءَ فَقَطْ وَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّخِذَهَا غِطَاءً فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ لِأَنَّ الْعَادَةَ وَأَلْفَاظَ الْوَاقِفِينَ شَهِدَتْ بِذَلِكَ وَكَوَقْفِ الزَّيْتِ لِلِاسْتِصْبَاحِ لَيْسَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute