للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صَمْتُهُ وَأَمَّا الْخَمْرُ وَالْمُسْكِرَاتُ فَلَا تَكَادُ تَجِدُ أَحَدًا مِمَّنْ يَشْرَبُهَا إلَّا وَهُوَ نَشْوَانُ مَسْرُورٌ بَعِيدٌ عَنْ صُدُورِ الْبُكَاءِ وَالصَّمْتِ وَثَانِيهمَا أَنَّا نَجِدُ شُرَّابَ الْخَمْرِ تَكْثُرُ عَرْبَدَتُهُمْ وَوُثُوبُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِالسِّلَاحِ وَيَهْجُمُونَ عَلَى الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهَا حَالَةَ الصَّحْوِ وَهُوَ مَعْنَى الْبَيْتِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ:

وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ

وَلَا نَجِدُ أَكَلَةَ الْحَشِيشَةِ إذَا اجْتَمَعُوا يَجْرِي بَيْنَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُسْمَعْ عَنْهُمْ مِنْ الْعَوَائِدِ مَا يُسْمَعُ عَنْ شُرَّابِ الْخَمْرِ بَلْ هُمْ هَمَدَةٌ سُكُوتٌ مَسْبُوتِينَ لَوْ أَخَذْت قُمَاشَهُمْ أَوْ سَبَبْتَهُمْ لَمْ تَجِدْ فِيهِمْ قُوَّةَ الْبَطْشِ الَّتِي تَجِدُهَا فِي شَرَبَةِ الْخَمْرِ بَلْ هُمْ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْبَهَائِمِ وَلِذَلِكَ إنَّ الْقَتْلَى يُوجَدُونَ كَثِيرًا مِنْ شُرَّابِ الْخَمْرِ وَلَا يُوجَدُونَ مَعَ أَكَلَةِ الْحَشِيشَةِ فَلِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ الْمُفْسِدَاتِ لَا مِنْ الْمُسْكِرَاتِ وَلَا أُوجِبُ فِيهَا الْحَدَّ وَلَا أُبْطِلُ بِهَا الصَّلَاةَ بَلْ التَّعْزِيرُ الزَّاجِرُ عَنْ مُلَابِسِهَا

(تَنْبِيهٌ) تَنْفَرِدُ الْمُسْكِرَاتُ عَنْ الْمُرْقِدَاتِ وَالْمُفْسِدَاتِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ الْحَدِّ وَالتَّنْجِيسِ وَتَحْرِيمِ الْيَسِيرِ وَالْمُرْقِدَاتُ وَالْمُفْسِدَاتُ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا نَجَاسَةَ فَمَنْ صَلَّى بِالْبَنْجِ مَعَهُ أَوْ الْأَفْيُونِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ إجْمَاعًا وَيَجُوزُ تَنَاوُلُ الْيَسِيرِ مِنْهَا فَمَنْ تَنَاوَلَ حَبَّةً مِنْ الْأَفْيُونِ أَوْ الْبَنْجِ أَوْ السَّيْكَرَانِ جَازَ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْرًا يَصِلُ إلَى التَّأْثِيرِ فِي الْعَقْلِ أَوْ الْحَوَاسِّ أَمَّا دُونَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَحْكَامُ وَقَعَ بِهَا الْفَرْقُ بَيْن الْمُسْكِرَاتِ وَالْآخَرِينَ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَاضْبُطْهُ فَعَلَيْهِ تَتَخَرَّجُ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ

(الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفَ التَّكْلِيفِ) (دُونَ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ كَوْنِ الزَّمَانِ ظَرْفًا لِإِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ مَعَ التَّكْلِيفِ) هَذَا الْمَوْضِعُ الْتَبَسَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَاخْتَلَطَتْ عَلَيْهِمْ الْقَاعِدَتَانِ فَوَرَدَتْ إشْكَالَاتٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَيَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ بِذِكْرِ ثَلَاثِ مَسَائِلَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى)

فِي كَوْنِ الْكُفَّارِ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مُخَاطَبُونَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّوَاهِي فَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا دُونَ الْأَوَامِرِ فَلَا يُخَاطَبُونَ بِهَا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَبِقَوَاعِدِ الدِّينِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْفُرُوعِ وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْسُوطٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهَا هَاهُنَا بَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ خَاصَّةً

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

فَإِنَّهُ طَاهِرٌ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ وَصَرْفُ الْمَالِ فِي الْمُبَاحَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِسَرَفٍ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ فِي النَّفَقَاتِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هُوَ التَّبْذِيرُ وَفَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ التَّبْذِيرَ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ فَإِذَا كَانَ الْإِنْفَاقُ فِي حَقِّهِ وَلَوْ مُبَاحًا فَلَيْسَ بِسَرَفٍ قَالَ مُجَاهِدٌ لَوْ أَنْفَقَ الرَّجُلُ جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ ذَهَبًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ سَرَفًا وَلَوْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا وَاحِدًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَانَ سَرَفًا وَحُرْمَتُهُ لِضَرَرِهِ إنْ تَحَقَّقَ فَهِيَ لِأَمْرٍ عَارِضٍ لَا لِذَاتِهِ وَيَحْرُمُ عَلَى مَنْ يَضُرُّهُ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ وَدَعْوَى أَنَّهُ مُضِرٌّ مُطْلَقًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا اهـ مَا قَالَهُ عج بِاخْتِصَارٍ كَثِيرٍ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُفَتِّرَ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ حَرَامٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمُ اهـ كَلَامُ ابْنِ حَمْدُونٍ بِاخْتِصَارٍ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْعُشْبَةِ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ مُطْلَقًا فَيَكُونُ نَجِسًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَحُرْمَةُ قَلِيلِهِ كَكَثِيرِهِ أَوْ مِنْ الْمُفَتِّرَاتِ مُطْلَقًا وَأَنَّهَا تُحْدِثُ اسْتِرْخَاءَ الْأَطْرَافِ وَتُخَدِّرُهَا وَصَيْرُورَتُهَا إلَى وَهَنٍ وَانْكِسَارٍ كَالْحَشِيشَةِ بِحَيْثُ تُشَارِكُ أَوَّلِيَّةَ الْخَمْرِ فِي نَشْوَتِهِ فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْقَدْرِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْعَقْلِ اتِّفَاقًا وَفِي حُرْمَةِ اسْتِعْمَالِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْلِ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي التَّأْثِيرِ إذْ الْغَالِبُ وُقُوعُهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ مِنْهَا وَحِفْظُ الْعُقُولِ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ أَوْ إبَاحَتِهِ نَظَرًا لِكَوْنِ الْعِلَّةِ تَدُورُ مَعَ الْمَعْلُولِ وُجُودًا وَعَدَمًا قَوْلَانِ أَوْ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ وَلَا مِنْ الْمُفَتِّرَاتِ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ فَهَلْ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ قَلِيلِهَا كَكَثِيرِهَا لِأَنَّهَا سَرَفٌ وَضَرَرٌ وَنَجَاسَةٌ لِكَوْنِهَا تُبَلُّ بِالْخَمْرِ أَوْ تُبَاحُ مُطْلَقًا لِأَنَّهَا مِمَّا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ فَهِيَ مِمَّا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ لِلْحَدِيثِ الْمَارِّ فَالْأَقْوَالُ فِيهَا خَمْسَةٌ اخْتَارَ ابْنُ حَمْدُونٍ مِنْهَا الْقَوْلَ بِأَنَّهَا مِنْ الْمُفَتِّرَاتِ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ قَلِيلِهَا كَكَثِيرِهَا لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمِ وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ حُكِيَ الْخِلَافُ فِي إبَاحَةِ قَلِيلِهَا وَاخْتَارَ تَحْرِيمَهُ كَكَثِيرِهَا مَعَ أَنَّ مُفَادَ قَوْلِهِ عَنْ ضَبْحٍ بَعْدَمَا ذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُرْقِدَاتِ وَالْمُفَتِّرَاتِ بِمِثْلِ مَا قَدَّمْته عَنْ الْأَصْلِ مَا نَصُّهُ وَيَنْبَنِي عَلَى الْإِسْكَارِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ دُونَ الْأَخِيرَيْنِ الْحَدُّ وَالنَّجَاسَةُ وَتَحْرِيمُ الْقَلِيلِ اهـ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْلِ مِنْ الْمُرْقِدَاتِ كَالْبَنْجِ وَالْمُفَتِّرَاتِ كَالْأَفْيُونِ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا مِثْلَهُ عَنْ الْأَصْلِ فَلَمْ يُحْكَ الْخِلَافُ فِي إبَاحَةِ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّرْقِيدِ كَالْبَنْجِ وَلَا مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّفْتِيرِ كَالْأَفْيُونِ فَكَيْفَ يُحْكَى فِي إبَاحَةِ مَا هُوَ فَرْعٌ فِي التَّفْتِيرِ كَهَذِهِ الْعُشْبَةِ وَيُرَجَّحُ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِهَا كَكَثِيرِهَا

الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَدْرِ الْمُفَتِّرِ مِنْهَا فَقَطْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُفَتِّرَ وَإِنْ اقْتَرَنَ فِي الذِّكْرِ وَالنَّهْيِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالسُّكْرِ الْمُتَقَرِّرِ عِنْدَنَا تَحْرِيمُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ أَنْ يُعْطَى الْمُقَارِنُ الْمَجْهُولِ الْحُكْمِ حُكْمَ مُقَارِنِهِ الْمَعْلُومِ إلَّا أَنَّ إعْطَاءَ حُكْمِ الْمُسْكِرِ لِلْمُفَتِّرِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِيمَا تَحَقَّقَ فِيهِ التَّفْتِيرُ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْقَلِيلِ مِنْ الْمُسْكِرِ قِيلَ لِنَجَاسَتِهِ وَكَوْنِهِ ذَرِيعَةً لِاسْتِعْمَالِ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِنْهُ وَقِيلَ لِنَجَاسَتِهِ فَقَطْ فَلَا يَحْرُمُ مِنْهُ قَلِيلُ مَا لَيْسَ

<<  <  ج: ص:  >  >>