وَهُوَ سُؤَالٌ حَسَنٌ مُتَّجِهٌ غَيْرَ أَنَّهُ عَارَضْنَا فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْدِيرِ كَوْنِهِ حُجَّةً وَهُوَ أَنَّهُ اضْطَرَّ لِلنُّطْقِ بِهِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْغَالِبِ وَأَوْرَدَ لَك ثَلَاثَ مَسَائِلَ تُوَضِّحُ لَك الْقَاعِدَتَيْنِ وَالْفَرْقَ بَيْنَهُمَا.
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ» أَوْ «زَكُّوا عَنْ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ» اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْلُوفَةِ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَيَكُونُ مِنْ الْمَفْهُومِ الَّذِي لَيْسَ حُجَّةً إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ السَّوْمَ يَغْلِبُ عَلَى الْغَنَمِ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا لَا سِيَّمَا فِي الْحِجَازِ لِعِزَّةِ الْعَلَفِ هُنَالِكَ وَالِاسْتِدْلَالُ بِمَا لَيْسَ حُجَّةً إجْمَاعًا لَا يَسْتَقِيمُ الثَّانِي أَنَّ هَذَا مَفْهُومٌ وَإِنْ سَلَّمَ أَنَّهُ حُجَّةٌ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِالْمَنْطُوقِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» فَهَذَا الِاسْتِدْلَال بَاطِلٌ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» مَفْهُومُهُ أَنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهَا وَلِيُّهَا صَحَّ نِكَاحُهَا وَهَذَا الْمَفْهُومُ مَلْغِيٌّ بِسَبَبِ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا لَا تُنْكِحُ نَفْسَهَا فِي مَجْرَى الْعَادَةِ إلَّا وَوَلِيُّهَا غَيْرُ آذِنٍ بَلْ غَيْرُ عَالِمٍ فَصَارَ عَدَمُ إذْنِ الْوَلِيِّ غَالِبًا فِي الْعَادَةِ عَلَى تَزْوِيجِهَا لِنَفْسِهَا فَالتَّقْيِيدُ بِهِ تَقْيِيدٌ بِمَا هُوَ غَالِبٌ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: ٣١] وَمَفْهُومُهُ أَنَّكُمْ إذَا لَمْ تَخْشَوْا الْإِمْلَاقَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْكُمْ الْقَتْلُ وَهُوَ مَفْهُومٌ مَلْغِيٌّ إجْمَاعًا بِسَبَبِ أَنَّهُ قَدْ غَلَبَ فِي الْعَادَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْتُلُ وَلَدَهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَأَمْرٍ قَاهِرٍ؛ لِأَنَّ حِنَّةَ الْأُبُوَّةِ مَانِعَةٌ مِنْ قَتْلِهِ فَتَقْيِيدُ الْقَتْلِ بِخَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ تَقْيِيدٌ لَهُ بِوَصْفٍ هُوَ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ فِي الْقَتْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانُوا لَا يَقْتُلُونَ إلَّا خَوْفَ الْفَقْرِ أَوْ الْفَضِيحَةِ فِي الْبَنَاتِ وَهُوَ الْوَأْدُ الَّذِي صُرِّحَ بِهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ فِي قَوْلِهِ {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: ٨] وَالْوَأْدُ الثِّقَلُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَهُنَّ أَحْيَاءً فَيَمُتْنَ مِنْ غَمِّ التُّرَابِ وَثِقَلِهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: ٢٥٥] أَيْ لَا يُثْقِلُهُ وَعَلَى هَذَا الْقَانُونِ اُعْتُبِرَ الْمَفْهُومُ الْغَالِبُ مِنْ غَيْرِهِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (وَهُوَ سُؤَالٌ حَسَنٌ غَيْرَ أَنَّهُ عَارَضْنَا فِيهِ مَا تَقَدَّمَ إلَى آخِرِ قَوْلِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا) قُلْت: قَدْ سَبَقَ مَا وَرَدَ عَلَى دَعْوَى الِاضْطِرَارِ.
قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ» إلَى آخِرِهَا قُلْت: مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِلشَّافِعِيَّةِ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ قَدْ سَبَقَ مَا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ عِزُّ الدِّينِ وَقَوْلُهُ الثَّانِي أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْمَنْطُوقِ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» لَا بَأْسَ بِهِ.
قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» إلَى آخِرِهِ قُلْت: يَرِدُ عَلَى مَا قَالَهُ فِيهَا سُؤَالُ عِزِّ الدِّينِ.
قَالَ (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: ٣١] إلَى آخِرِهَا قُلْت: إنَّمَا أُلْغِيَ هَذَا الْمَفْهُومُ لِمُعَارَضَتِهِ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ مَنْ لَمْ يَجْنِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقَتْلَ وَلَدًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَلَدٍ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
الْأَحْكَامِ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ تَعَارُضِ الْعُمُومِ فِي خُصُوصِ الْعَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى فِي دَمِ الْحَيْضِ بَلْ هُوَ أَذًى وَالْعُمُومُ فِي خُصُوصِ الْحَالِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: ١٤٥] فَيَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ وَيَكُونُ قَلِيلُ دَمِ الْحَيْضِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءً فِي التَّحْرِيمِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَابْنِ سِيرِينَ عَنْ مَالِكٍ عَلَى الثَّانِي الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فَقَالَ: يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ؛ لِأَنَّ حَالَ الْعَيْنِ أَرْجَحُ مِنْ حَالِ الْحَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَيْ التَّسَاقُطُ بِسَبَبِ التَّنَافِي فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ وَفِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَلَهُ مَسَائِلُ مِنْهَا اقْتِضَاءُ النِّكَاحِ مَعَ الْمِلْكِ إبَاحَةَ الْوَطْءِ فَيَغْلِبُ الْأَقْوَى وَهُوَ الْمِلْكُ؛ لِأَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ يُوجِبُ إبَاحَةَ الْوَطْءِ كَالنِّكَاحِ يُوجِبُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَالْمَنَافِعِ وَتَكُونُ الْإِبَاحَةُ الْحَاصِلَةُ مُضَافَةً لَهُ فَقَطْ وَيَسْقُطُ النِّكَاحُ وَلَا يَحْصُلُ تَدَاخُلٌ فَلَا يُقَالُ الْإِبَاحَةُ مُضَافَةٌ لَهُمَا أَلْبَتَّةَ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْمِلْكُ كَمَا إذَا عَقَدَ عَلَى أَمَتِهِ أَوْ تَأَخَّرَ كَمَا إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ وَصَيَّرَهَا أَمَتَهُ، وَمِنْهَا عِلْمُ الْحَاكِمِ مَعَ الْبَيِّنَةِ إذَا شَهِدَتْ بِمَا يَعْلَمُهُ فَإِنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ لِلْبَيِّنَةِ دُونَ عِلْمِهِ فَيَسْقُطُ الْقَضَاءُ بِهِ عِنْدَ مَالِكٍ حَذَرًا مِنْ الْقُضَاةِ السُّوءِ وَسَدًّا لِذَرِيعَةِ الْفَسَادِ عَلَى الْحُكَّامِ بِالتُّهَمِ وَعَلَى النَّاسِ بِالْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْبَاطِلِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقَدِّمُ الْقَضَاءَ بِعِلْمِهِ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَالْعِلْمُ أَوْلَى مِنْ الظَّنِّ وَيَحْتَمِلُ مَذْهَبُهُ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيَجْعَلُ الْحُكْمَ مُضَافًا إلَيْهِمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا وَمِنْهَا مَنْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ سَبَبَا تَوْرِيثٍ بِالْفَرْضِ فِي أَنْكِحَةِ الْمَجُوسِ فَإِنَّهُ يَرِثُ بِأَقْوَاهُمَا وَيَسْقُطُ الْآخَرُ مَعَ أَنَّ كِلَيْهِمَا يَقْتَضِي الْإِرْثَ كَالِابْنِ إذَا كَانَ أَخًا لِأُمٍّ كَمَا إذَا تَزَوَّجَ أُمَّهُ فَوَلَدُهَا حِينَئِذٍ ابْنُهُ وَهُوَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ فَيَرِثُ بِالْبُنُوَّةِ وَتَسْقُطُ الْأُخُوَّةُ، أَمَّا إنْ كَانَا سَبَبَيْنِ لِلتَّوْرِيثِ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ فَإِنَّهُ يَرِثُ بِهَا كَالزَّوْجِ ابْنُ عَمٍّ يَأْخُذُ النِّصْفَ بِالزَّوْجِيَّةِ وَالنِّصْفَ الْآخَرَ بِكَوْنِهِ ابْنَ عَمٍّ.
(تَنْبِيهٌ) عَدَمُ تَدَاخُلِ الْأَسْبَابِ مَعَ تَمَاثُلِهَا الْجَارِي عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ وَالْأَصْلُ مِنْ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ مُسَبَّبُهُ هُوَ الْأَكْثَرُ فِي الشَّرِيعَةِ فَمِنْ مَسَائِلِهِ الْإِتْلَافَانِ يَجِبُ بِهِمَا ضَمَانَانِ وَلَا يَتَدَاخَلَانِ، وَمِنْهَا الطَّلَاقَانِ يُنْقِصُ كُلُّ طَلَاقٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعِصْمَةِ طَلْقَةً وَلَا يَتَدَاخَلَانِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ التَّأْكِيدَ أَوْ الْخَبَرَ عَنْ الْأَوَّلِ، وَمِنْهَا الزَّوَالَانِ يُوجِبَانِ ظُهْرَيْنِ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَأَسْبَابُهَا وَمِنْهَا النَّذْرَانِ يَتَعَدَّدُ مَنْذُورُهُمَا وَلَا يَتَدَاخَلُ وَمِنْهَا الْوَصِيَّتَانِ