للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَهَذَا رِثَاءٌ مُبَاحٌ لَا يَحْرُمُ مِثْلُهُ.

وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُشِيرُ إلَى التَّجْوِيرِ وَلَا تَسْفِيهِ الْقَضَاء بَلْ إنَّهُ حَزِينٌ مُتَأَلِّمٌ لِمَيِّتِهِ، وَكَانَ يَشْتَهِي لَوْ مَاتَ مَعَهُ فَهَذَا أَمْرٌ قَرِيبٌ لَا غَرْوَ فِيهِ، وَمِثَالُ الرِّثَاءِ الْمَنْدُوبِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا مَاتَ عَظُمَ مُصَابُهُ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَظِيمًا عِنْدَ النَّاسِ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تُرْجُمَان الْقُرْآنِ وَافِرَ الْعَقْلِ جَمِيلَ الْمَحَاسِنِ وَالْجَلَالَةِ وَالْأَوْصَافِ الْحَمِيدَة فَأَعْظَمَهُ النَّاسُ عَلَى التَّعْزِيَةِ إجْلَالًا لَهُ وَمَهَابَةً بِسَبَبِ عَظَمَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَعَظَمَةِ مَنْ أُصِيبَ بِهِ، فَإِنَّ الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَقِيَ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ وَالِدِهِ وَكَانَ يُقَالُ مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ فَيُقَالُ الْعَبَّاسُ وَمَنْ أَعْلَمُ النَّاسِ فَيُقَالُ الْعَبَّاسُ. وَمَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ فَيُقَالُ الْعَبَّاسُ فَلَمَّا مَاتَ عَظُمَ خَطْبُهُ وَجَلَّتْ رَزِيَّتُهُ فِي صُدُورِ النَّاسِ وَفِي صَدْرِ وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَأَحْجَمَ النَّاسُ عَنْ تَعْزِيَتِهِ فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ شَهْرًا كَمَا ذَكَرَهُ الْمُؤَرِّخُونَ فَبَعْدَ الشَّهْرِ قَدِمَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ الْبَادِيَةِ فَسَأَلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ النَّاسُ مَا تُرِيدُ فَقَالَ أُرِيدُ أَنْ أُعَزِّيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ عَسَاهُ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ بَابَ التَّعْزِيَةِ فَلَمَّا رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ سَلَامٌ عَلَيْك يَا أَبَا الْفَضْلِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعَلَيْك السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَأَنْشَدَهُ:

اصْبِرْ نَكُنْ بِك صَابِرِينَ ... فَإِنَّمَا صَبْرُ الرَّعِيَّةِ عِنْدَ صَبْرِ الرَّاسِ

خَيْرٌ مِنْ الْعَبَّاسِ أَجْرُك بَعْدَهُ ... وَاَللَّهُ خَيْر مِنْك لِلْعَبَّاسِ

فَلَمَّا سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رِثَاءَهُ وَاسْتَوْعَبَ شِعْرَهُ سُرِّيَ عَنْهُ عَظِيمُ مَا كَانَ بِهِ. وَاسْتَرْسَلَ النَّاسُ فِي تَعْزِيَتِهِ

وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْجَوْدَةِ مِنْ الرِّثَاء مُسَهِّلٌ لِلْمُصِيبَةِ مُذْهِبٌ لِلْحُزْنِ مُحْسِنٌ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

الْحُكْمَ وَكُلُّ شَرْطٍ شَكَكْنَا فِي وُجُودِهِ جَعَلْنَاهُ كَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهِ فَلَا نُرَتِّبُ الْحُكْمَ، وَكُلُّ مَانِعٍ شَكَكْنَا فِي وُجُودِهِ جَعَلْنَاهُ كَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهِ فَيَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ إنْ وُجِدَ سَبَبُهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْوَفَاءُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي الطَّهَارَاتِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ جَعَلَ الْعُلَمَاءَ - وَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى اعْتِبَارِهَا فِيهَا أَيْضًا - يَخْتَلِفُونَ فِي الْوَجْهِ الَّذِي تُلْغَى بِهِ وَالْوَجْهِ الَّذِي تُعْتَبَرُ بِهِ فِيهَا.

فَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذَا شُكَّ فِي طَرَيَان الْحَدَثِ جَعَلْته كَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهِ لَا يَجِبُ مَعَهُ الْوُضُوءُ فَلَا يَجِبُ عَلَى هَذَا الشَّاكِّ الْوُضُوءُ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الشَّكُّ فِي طَرَيَانِ الْحَدَثِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي بَقَاءِ الطَّهَارَةِ، وَالشَّكُّ فِي بَقَاءِ الطَّهَارَةِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ هَلْ هِيَ سَبَبٌ مُبَرِّئٌ أَمْ لَا.

وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ تَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ مُبَرِّئٍ مَعْلُومِ الْوُجُودِ أَوْ مَظْنُونِ الْوُجُودِ لَا مَشْكُوكِ الْوُجُودِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذَا الصَّلَاةُ كَالْمَجْزُومِ بِعَدَمِهَا، وَالْمَجْزُومُ بِعَدَمِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فَيَجِبُ عَلَى هَذَا الشَّاكِّ أَنْ يُصَلِّيَ بِصَلَاةٍ مَظْنُونَةٍ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَرْفًا بِحَرْفٍ فَكِلَاهُمَا يَقُولُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ مُلْغًى لَكِنَّ إلْغَاءَ مَالِكٍ فِي السَّبَبِ الْمُبَرِّئِ وَإِلْغَاءَ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَدَثِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَرْجَحُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ مَقْصِدٌ وَالطَّهَارَاتِ وَسَائِلٌ وَطَرْحُ الشَّكِّ تَحْقِيقًا لِلْمَقْصِدِ أَوْلَى مِنْ طَرْحِهِ لِتَحْقِيقِ الْوَسَائِلِ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ إلْغَاءِ الشَّكِّ فِي طَرَيَان الْإِحْدَاثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَدَمِ إلْغَائِهِ فِي طَرَيَان غَيْرِهَا مِنْ الْأَسْبَابِ وَرَوَافِعِهَا كَالشَّكِّ فِي طَرَيَان الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْحَدَثِ فَيُلْغَى الْمَشْكُوكُ فِيهِ عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الطَّهَارَةُ أَوْ فِي أَنَّهُ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي سَبَبِ حِلِّ الْعِصْمَةِ فَيُلْغَى عَلَى الْقَاعِدَةِ، أَوْ فِي أَنَّهُ هَلْ سَهَا أَمْ لَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي سَبَبِ سُجُودِ السَّهْوِ فَيُلْغَى عَلَى الْقَاعِدَةِ، أَمَّا إذَا شَكَّ فِي عَيْنِ الْيَمِينِ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَيْمَانِ إذْ لَا يَعْلَمُ السَّبَبَ الْمُبَرِّئَ إلَّا بِاسْتِيعَابِهَا كَمَا قُلْنَا فِي الصَّلَاةِ إذَا شَكَّ فِي طَرَيَان الْحَدَثِ عَلَى طَهَارَتِهَا أَوْ شَكَّ فِي كَوْنِ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا وَاحِدَةً فَيَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ لَمْ يَقَعْ فِي الطَّلَاقِ بَلْ فِي بَقَاءِ الْعِصْمَةِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الرَّجْعَةِ فَيُلْغَى عَلَى الْقَاعِدَةِ أَوْ شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا فَيَأْتِي بِرَابِعَةٍ، وَيَسْجُدُ إذْ لَيْسَ هُنَا شَكٌّ فِي السَّبَبِ حَتَّى يُلْغَى عَلَى الْقَاعِدَةِ بَلْ سَبَبٌ فِي الشَّكِّ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ نَصَبَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ سَبَبًا لِلسُّجُودِ لَا لِلزِّيَادَةِ.

وَهُوَ مُحَقَّقٌ وَلَا شَكَّ فِيهِ تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ الرَّابِعِ وَالْأَرْبَعِينَ بَيْنَ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ وَبَيْنَ السَّبَبِ فِي الشَّكِّ بَسْطُ مَسَائِلِ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ وَالسَّبَبِ فِي الشَّكِّ فَلْتُطَالِعْ ثَمَّةَ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ اعْتِبَارِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الشَّكَّ فِي الْحَدَثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ، وَفِي أَنَّهُ هَلْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً وَفِي أَنَّهُ هَلْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ إعْتَاقٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَفِي أَنَّهُ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا حَيْثُ قَالَ فِي الْأَوَّلِ يَجِبُ الْوُضُوءُ، وَفِي الثَّانِي يَلْزَمُهُ، وَفِي الثَّالِثِ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَيْمَانِ، وَفِي الرَّابِعِ يَجْعَلُهَا ثَلَاثًا، وَيُصَلِّي الرَّابِعَةَ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ لِأَجْلِ الشَّكِّ فَاعْتَبَرَهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُرُوعِ وَنَحْوِهَا وَبَيْنَ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ الشَّكَّ فِي الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْحَدَثِ وَفِي أَنَّهُ هَلْ طَلَّقَ أَمْ لَا، وَفِي أَنَّهُ هَلْ سَهَا أَمْ لَا حَيْثُ قَالَ فِي الْأَوَّلِ لَا عِبْرَةَ بِالطَّهَارَةِ، وَفِي الثَّانِي وَفِي الثَّالِثِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِإِلْغَاءِ الشَّكِّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُرُوعِ وَنَحْوِهَا فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَصْلٌ) حَدَّ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ السَّبَبَ وَالْعِلَّةَ بِالْوَصْفِ الظَّاهِرِ الْمُنْضَبِطِ الْمُعَرِّفِ

<<  <  ج: ص:  >  >>