غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَتْ فِي الْقَاعِدَةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا أَغْوَارٌ لَمْ يُفْصِحْ بِهَا، وَهُوَ يُرِيدُهَا وَهِيَ أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عُرْفِيَّةٌ لَا لُغَوِيَّةٌ، وَأَنَّهَا تُفِيدُ بِالنَّقْلِ الْعُرْفِيِّ لَا بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَثَانِيهَا أَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَكَرُّرٍ لَا يَكْفِي فِي النَّقْلِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَكَرُّرِ الِاسْتِعْمَالِ إلَى غَايَةٍ يَصِيرُ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ يُفْهَمُ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ.
وَيَكُونُ هُوَ السَّابِقُ إلَى الْفَهْمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَجَازُ الرَّاجِحُ فَقَدْ يَتَكَرَّرُ اللَّفْظُ فِي مَجَازِهِ وَلَا يَكُونُ مَنْقُولًا وَلَا مَجَازًا رَاجِحًا أَلْبَتَّةَ كَاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْأَسَدِ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَالْبَحْرِ فِي الْعَالِمِ أَوْ السَّخِيِّ وَالضُّحَى أَوْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْغَزَالِ فِي جَمِيلِ الصُّورَةِ، وَذَلِكَ يَتَكَرَّرُ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ تَكْرَارًا كَثِيرًا، وَمَعَ ذَلِكَ التَّكْرَارِ الَّذِي لَا يُحْصَى عَدَدُهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَارَتْ مَنْقُولَةً بَلْ لَا تُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا عَلَى الْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا أُرِيدَ بِهَا هَذِهِ الْمَجَازَاتُ، وَلَا بُدَّ فِي كُلِّ مَجَازٍ مِنْهَا مِنْ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ إلَى اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِيهِ فَعَلِمْنَا حِينَئِذٍ أَنَّ النَّقْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِتَكَرُّرِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ إلَى حَدٍّ يَصِيرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ لِلذِّهْنِ وَالْفَهْمِ هُوَ الْمَجَازُ الرَّاجِحُ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ دُونَ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ فَهَذَا ضَابِطٌ فِي النَّقْلِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَإِذَا أَحَطْتَ بِهِ عِلْمًا ظَهَرَ لَك الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ أَنَّا لَا نَجِدُ أَحَدًا فِي زَمَانِنَا يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ عِنْدَ إرَادَةِ تَطْلِيقِهَا حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ وَلَا أَنْتِ بَرِيَّةٌ وَلَا وَهَبْتُكِ لِأَهْلِكِ هَذَا لَمْ نَسْمَعْهُ قَطُّ مِنْ الْمُطَلِّقِينَ وَلَوْ سَمِعْنَاهُ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَى سَمْعِنَا لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ فِي اعْتِقَادِنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مَنْقُولَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَأَمَّا لَفْظُ الْحَرَامِ فَقَدْ اُشْتُهِرَ فِي زَمَانِنَا فِي أَصْلِ إزَالَةِ الْعِصْمَةِ فَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَمَّا أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّا لَا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ ذَلِكَ فِي الِاسْتِعْمَالِ هَذَا قَوْلُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ.
فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ بَلَدٌ آخَرُ تَكَرَّرَ الِاسْتِعْمَالُ عِنْدَهُمْ فِي الْحَرَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثِ حَتَّى صَارَ هَذَا الْعَدَدُ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ اللَّفْظِ، فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ إلْزَامُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ إنَّا لَا نَفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّ مَالِكًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَهُ أَوْ لِأَنَّهُ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَهْمُ حَاصِلًا لَكَ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعَادَةِ كَمَا يَحْصُلُ لِسَائِرِ الْعَوَامّ كَمَا فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ وَالْبَحْرِ وَالرِّوَايَةِ فَالْفَقِيهُ وَالْعَامِّيُّ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ سَوَاءٌ فِي الْفَهْمِ لَا يَسْبِقُ إلَى إفْهَامِهِمْ إلَّا الْمَعَانِي الْمَنْقُولُ إلَيْهَا فَهَذَا هُوَ الضَّابِطُ لَا فَهْمُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ فَإِنَّ النَّقْلَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِاسْتِعْمَالِ النَّاسِ لَا بِتَسْطِيرِ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ بَلْ الْمُسَطَّرُ فِي الْكُتُبِ تَابِعٌ لِاسْتِعْمَالِ النَّاسِ فَافْهَمْ ذَلِكَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ قَالَ (غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَتْ فِي الْقَاعِدَةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا أَغْوَارٌ لَمْ يُفْصِحْ بِهَا وَهُوَ يُرِيدُهَا، وَهِيَ أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ هَذِهِ الْإِفَادَةَ عُرْفِيَّةٌ إلَى قَوْلِهِ فَهَذَا ضَابِطٌ فِي النَّقْلِ لَا بُدَّ مِنْهُ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ
قَالَ (فَإِذَا أَحَطْتَ بِهِ عِلْمًا ظَهَرَ لَكَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَى قَوْلِهِ فَحِينَئِذٍ يُحْسِنُ إلْزَامُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ) قُلْتُ وَمَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْضًا صَحِيحٌ قَالَ: (وَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ إنَّا لَا نَفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَهُ أَوْ لِأَنَّهُ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَهْمُ حَاصِلًا لَكَ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعَادَةِ كَمَا يَحْصُلُ لِسَائِرِ الْعَوَامّ إلَى قَوْلِهِ: بَلْ الْمُسَطَّرُ فِي الْكُتُبِ تَابِعٌ لِاسْتِعْمَالِ النَّاسِ فَافْهَمْ ذَلِكَ)
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
بِحُكْمِ ذَلِكَ الْبَلَدِ أَوْ هُوَ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ فَيَسْأَلُهُ حِينَئِذٍ عَنْ الْمُشْتَهَرِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ فَيُفْتِيهِ بِهِ.
وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَهُ بِحُكْمِ بَلَدِهِ كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّعَامُلُ بِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِ الْحَاكِمِ حَرُمَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُلْزِمَ الْمُشْتَرِيَ بِسِكَّةِ بَلَدِهِ بَلْ بِسِكَّةِ بَلَدِ الْمُشْتَرِي إنْ اخْتَلَفَ السِّكَّتَانِ فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ لَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَتِهَا وَبِالْإِحَاطَةِ بِهَا يَظْهَرُ لَكَ أَنَّ إجْرَاءَ الْفُقَهَاءِ الْمُفْتِينَ لِلْمَسْطُورَاتِ فِي كُتُبِ أَئِمَّتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ إنْ كَانُوا فَعَلُوا ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ عُرْفٍ وَقْتِيٍّ فَفِعْلُهُمْ خَطَأٌ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَهُمْ عُصَاةٌ آثِمُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَعْذُورِينَ بِالْجَهْلِ لِدُخُولِهِمْ فِي الْفَتْوَى وَلَيْسُوا أَهْلًا لَهَا وَلَا عَالِمِينَ بِمَدَارِكِهَا وَشُرُوطِهَا وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا، وَإِنْ كَانُوا فَعَلُوهُ مَعَ عَدَمِ الْعُرْفِ الْوَقْتِيِّ فَلَيْسَ بِخَطَأٍ وَسَبَبُ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَحْقِيقِ وُقُوعِ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ هَلْ وُجِدَ فَيُتَّبَعُ أَمْ لَمْ يُوجَدْ فَيُتَّبَعُ مُوجَبُ اللُّغَةِ وَإِذَا وُجِدَ النَّقْلُ فَهَلْ وُجِدَ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ فَقَطْ أَوْ فِيهِ مَعَ الْبَيْنُونَةِ أَوْ مَعَ الْعَدَدِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ نَقْلٌ عُرْفِيٌّ وَبَقِيَ مُوجَبُ اللُّغَةِ فَهَلْ يُلَاحَظُ نُصُوصٌ اقْتَضَتْ الْكَفَّارَةَ فِي مِثْلِ هَذِهِ أَوْ لَا أَوْ الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ فَيَكُونُ الْمُدْرَكُ هُوَ الْقِيَاسُ لَا النَّصُّ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى هَذِهِ الْمَدَارِكِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَّضِحْ وُجُودُهَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَاتَّضَحَ عِنْدَ الْبَعْضِ الْآخَرِ وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْحُكْمِ فَلَوْ وَقَعَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى وُجُودِهَا لَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْحُكْمِ، وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ صِحَّةِ هَذِهِ الْمَدَارِكِ وَبَيْنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُودِهَا، وَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ مُدْرَكُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَالْإِمَامِ مَالِكٍ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ الْوَقْتِيِّ إنْ كَانَ وَإِلَّا فَالشَّرْعِيُّ وَإِلَّا فَاللُّغَوِيُّ وَإِلَّا فَالْأَصْلِيُّ لَا الْقِيَاسُ وَلَا النَّصُّ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا الِاسْتِقْرَاءُ فَلَهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُدْرَكُهُمْ فِي حَمْلِهِمْ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْإِنْشَاءِ لَا عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ مِنْ الْخَبَرِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ أَوْ النَّصُّ فَإِنَّا نَعْلَمُ مَسَائِلَ الطَّلَاقِ وَشَرَائِطَ الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي