مَا تَعَيَّنَ صَوْنُهُ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ صَوْنُ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى الصَّلَاةِ إذَا خُشِيَ فَوَاتُهُ وَهُوَ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ حَقُّ اللَّهِ يُقَدَّمُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بِالْمُحَالَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ دُونَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ حَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ بِدَلِيلِ تَرْكِ الطَّهَارَاتِ وَالْعِبَادَاتِ إذَا عَارَضَهَا ضَرَرُ الْعَبْدِ، وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَتَّضِحُ لَك مَا يُقَدَّمُ عَلَى الْحَجِّ مِمَّا لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ فَيُقَدَّمُ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْحَجِّ، إذَا قُلْنَا: إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْفَوْرِ إجْمَاعًا وَالْفَوْرِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُتَرَاخِي وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ حَقُّ السَّيِّدِ عَلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ وَحَقُّ السَّيِّدِ وَاجِبٌ فَوْرِيٌّ وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى الْحَجِّ الْفَرْضِ إنْ قُلْنَا إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فَوْرِيٌّ وَكَذَلِكَ يَمْنَعُ الدَّيْنُ الْحَالُّ الْخُرُوجَ إلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ فَوْرِيٌّ وَلَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ.
قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْحَجُّ أَفْضَلُ مِنْ الْغَزْوِ؛ لِأَنَّ الْغَزْوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالْحَجَّ فَرْضُ عَيْنٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُكْثِرُ الْحَجَّ وَلَا يَحْضُرُ الْغَزْوَ وَكَذَلِكَ تُقَدَّمُ رَكْعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ عَلَى الْحَجِّ إذَا لَمْ يَبْقَ قَبْلَ الْفَجْرِ إلَّا مِقْدَارُ رَكْعَةٍ لِلْعِشَاءِ وَالْوُقُوفِ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُفَوِّتُ الْحَجَّ وَيُصَلِّي وَلِلشَّافِعِيَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَقْوَالٌ: يُفَوِّتُهَا، وَيُقَدِّمُ الْحَجَّ لِعِظَمِ مَشَقَّتِهِ يُصَلِّي وَهُوَ يَمْشِي كَصَلَاةِ الْمُسَايَفَةِ، وَالْحَقُّ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ وَهِيَ فَوْرِيَّةٌ إجْمَاعًا وَبِاَللَّهِ الْإِعَانَةُ.
(الْفَرْقُ الْعَاشِرُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ عَنْ الْمُكَلَّفِ)
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ: (الْفَرْقُ الْعَاشِرُ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ وَقَاعِدَةِ مَا لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ عَنْ الْمُكَلَّفِ) .
قُلْت: صِحَّةُ النِّيَابَةِ فِي الْأَفْعَالِ كُلِّهَا الْقَلْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا جَائِزَةٌ عَقْلًا لَكِنَّ الشَّرْعَ حَكَمَ بِصِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
عَلَى أَنَّ التَّسَبُّبَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ وَقَالَ فِيمَا يَأْتِي لَهُ فِي الْفَرْقِ السَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَتَيْنِ: وَالسَّبَبُ مَا يُقَالُ عَادَةً حَصَلَ الْهَلَاكُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطٍ، وَالتَّسَبُّبُ مَا يَحْصُلُ الْهَلَاكُ عِنْدَهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى إذَا كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْمُقْتَضِيَ لِوُقُوعِ الْفِعْلِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ اهـ.
وَقَالَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَتِهِ الضَّمَانُ إذَا تَنَاوَلَ التَّلَفَ بِوَاسِطَةِ سَبَبٍ آخَرَ هَلْ يَحْصُلُ بِهِ ضَمَانٌ أَمْ لَا وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ مِنْهَا أَنْ يَفْتَحَ قَفَصًا فِيهِ طَائِرٌ فَيَطِيرَ بَعْدَ الْفَتْحِ فَقَالَ مَالِكٌ يَضْمَنُهُ هَاجَهُ عَلَى الطَّيَرَانِ، أَوْ لَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ إنْ هَاجَهُ وَلَا يَضْمَنُ إنْ لَمْ يَهِجْهُ يَعْنِي إنْ طَارَ عَقِيبَ الْفَتْحِ ضَمِنَ، وَإِلَّا فَلَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَضْمَنُ عَلَى حَالٍ وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنَّ فَتْحَ الْقَفَصِ سَبَبُ الْإِتْلَافِ عَادَةً فَيُوجِبُ الضَّمَانَ كَسَائِرِ صُوَرِ التَّسَبُّبِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا كَمَا إذَا فَتَحَ مُرَاحَهُ فَخَرَجَتْ مَاشِيَتُهُ فَأَفْسَدَتْ الزَّرْعَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ وَقَدْ أُسْقِطَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٩٤] خُصُوصُ التَّسَبُّبِ فَبَقِيَ الْغُرْمُ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ التَّسَبُّبُ وَالْمُبَاشَرَةُ اُعْتُبِرَتْ الْمُبَاشَرَةُ دُونَهُ وَالطَّيْرُ مُبَاشِرٌ بِاخْتِيَارِهِ لِحَرَكَةِ نَفْسِهِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا عُدْوَانًا فِي مَحَلٍّ فَأَرْدَى فِيهَا غَيْرُهُ إنْسَانًا فَإِنَّ الْمُرْدِيَ يَضْمَنُ دُونَ الْحَافِرِ وَالْحَيَوَانُ قَصْدُهُ مُعْتَبَرٌ بِدَلِيلِ جَوَارِحِ الصَّيْدِ إنْ أَمْسَكَتْ لِأَنْفُسِهَا لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ أَوْ لِلصَّائِدِ أُكِلَ وَالْجَوَابُ بِوُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّائِرَ كَانَ مُخْتَارًا لِلطَّيَرَانِ وَلَعَلَّهُ كَانَ مُخْتَارًا لِلْإِقَامَةِ لِانْتِظَارِ الْعَلَفِ، أَوْ خَوْفِ الْجَوَارِحِ الْكَوَاسِرِ، وَإِنَّمَا طَارَ خَوْفًا مِنْ الْفَاتِحِ، وَإِذَا احْتَمَلَ - وَاحْتَمَلَ، وَالسَّبَبُ مَعْلُومٌ - فَيُضَافُ الضَّمَانُ إلَيْهِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ يَقَعُ فِيهَا حَيَوَانٌ مَعَ إمْكَانِ اخْتِيَارِهِ لِنُزُولِهَا لِفَزَعٍ خَلْفَهُ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصَّيْدَ لَا يُؤْكَلُ إذَا أَكَلَ مِنْهُ الْجَارِحُ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّ الضَّمَانَ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّبَبِ الَّذِي تَوَصَّلَ بِهِ الطَّائِرُ لِمَقْصِدِهِ كَمَنْ أَرْسَلَ بَازِيًا عَلَى طَائِرِ غَيْرِهِ فَقَتَلَهُ الْبَازِي بِاخْتِيَارِهِ فَإِنَّ الْمُرْسِلَ يَضْمَنُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَقْتَضِي اخْتِيَارَ الْحَيَوَانِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفَتْحَ سَبَبٌ مُجَرَّدٌ بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الْمُبَاشَرَةِ لِمَا فِي طَبْعِ الطَّائِرِ مِنْ النُّفُورِ مِنْ الْآدَمِيِّ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّا نُفَرِّقُ بَيْنَ حَافِرِ الْبِئْرِ يَضْمَنُ مَنْ أَرْدَى إنْسَانًا فِيهَا دُونَهُ وَبَيْنَ فَاتِحِ الْقَفَصِ فَيَطِيرُ الطَّائِرُ مِنْهُ يَضْمَنُ الْفَاتِحُ وَلَمْ يُعْتَبَرْ قَصْدُ الطَّائِرِ بِأَنَّ قَصْدَ الطَّائِرِ وَنَحْوِهِ ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ، وَالْآدَمِيُّ يَضْمَنُ قَصَدَ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ» فَافْهَمْ وَمِنْهَا مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَسَقَطَ فِيهِ شَيْءٌ فَهَلَكَ فَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولَانِ إنْ حَفَرَهُ بِحَيْثُ أَنْ يَكُونَ حَفَرَهُ تَعَدِّيًا ضَمِنَ مَا تَلِفَ فِيهِ، وَإِلَّا لَمْ يَضْمَنْ وَيَجِيءُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ كَمَسْأَلَةِ الطَّائِرِ وَمِنْهَا وَقِيدُ النَّارِ قَرِيبًا مِنْ الزَّرْعِ، أَوْ الْأَنْدَرِ فَتَعْدُو فَتُحْرِقُ مَا جَاوَرَهَا وَمِنْهَا رَمْيُ مَا يُزْلِقُ النَّاسَ فِي الطُّرُقَاتِ فَيَعْطَبُ بِسَبَبِ ذَلِكَ حَيَوَانٌ، أَوْ غَيْرُهُ وَمِنْهَا الْكَلِمَةُ الْبَاطِلَةُ عِنْدَ ظَالِمٍ إغْرَاءً عَلَى مَالِ إنْسَانٍ فَيَأْخُذُهُ الظَّالِمُ فَإِنَّ الْمُتَسَبِّبَ فِي جَمِيعِهَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِسَبَبِهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَيَجِيءُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ كَمَسْأَلَةِ الطَّائِرِ وَمِنْهَا مَنْ قَطَعَ الْوَثِيقَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْحَقِّ وَالشَّهَادَةِ بِهِ يَضْمَنُ عِنْدَ مَالِكٍ ذَلِكَ الْحَقَّ لِتَسَبُّبٍ فِيهِ كَثَمَنِ الْوَثِيقَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ ثَمَنَ الْوَثِيقَةِ خَاصَّةً فَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ الْإِتْلَافَ دُونَ السَّبَبِ وَمَالِكٌ اعْتَبَرَهُمَا مَعًا وَرَأَى أَنَّهُ أَتْلَفَ الْوَرَقَةَ