للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالنِّسْبَةِ إلَى أَبْنِيَةِ الْمَلَائِكَةِ فَتُحْمَلُ آيَةُ التَّفْضِيلِ عَلَى ذَلِكَ.

وَثَانِيهَا تَفْضِيلُ الْجَانِّ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْأَبْنِيَةِ وَجَوْدَةِ التَّرْكِيبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ يَعِيشُونَ الْآلَافَ مِنْ السِّنِينَ فَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ الْمَوْتُ وَكَذَلِكَ لَا تَعْرِضُ لَهُمْ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَنِي آدَمَ بِسَبَبِ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَيْسَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى الرُّطُوبَاتِ وَأَجْرَامِ الْأَغْذِيَةِ فَلَا يَحْصُلُ الْعَفَنُ وَلَا آفَاتُ الرُّطُوبَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَنِي آدَمَ فَلِذَلِكَ كَثُرَ بَقَاؤُهُمْ وَطَالَ، وَأَسْرَعَ لِبَنِي آدَمَ الْمَوْتُ وَمِمَّا وَرَدَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ فِي الْجَانِّ لَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ بِاللَّيْلِ وَهُوَ يُقِيدُ النَّارَ:

أَتَوْا نَارِي فَقُلْت مَنُونُ أَنْتُمْ ... فَقَالُوا الْجِنُّ قُلْت عِمُوا ظَلَامَا

فَقُلْت إلَى الطَّعَامِ فَقَالَ مِنْهُمْ ... زَعِيمٌ يَحْسُدُ الْإِنْسَ الطَّعَامَا

لَقَدْ فُضِّلْتُمْ بِالْأَكْلِ عَنَّا ... وَلَكِنْ ذَاكَ يُعْقِبُكُمْ سِقَامَا

فَصَرَّحُوا فِي شِعْرِهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ.

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرُهُ: إنَّهُمْ يَتَغَذَّوْنَ مِنْ الْأَعْيَانِ بِرَوَائِحِهَا وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُمْ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْ أُمَّتَكَ لَا يَسْتَجْمِرُوا بِرَوْثٍ وَلَا عَظْمٍ فَإِنَّهَا طَعَامُنَا وَطَعَامُ دَوَابِّنَا» مَعَ أَنَّا نَجِدُ الْعَظْمَ يَمُرُّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ الطَّوِيلُ لَا يَتَغَيَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ يَتَغَذَّوْنَ بِالرَّائِحَةِ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُمْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ مَنْ يَتَغَذَّى بِالرَّائِحَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَغَذَّى بِجِرْمِ الْغِذَاءِ وَمِنْهُمْ طَائِرٌ لَا يَأْوِي فِي الْأَرْضِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْوِي فِي الْأَرْضِ يَرْحَلُونَ وَيَنْزِلُونَ فِي الْبَرَارِيِّ كَالْأَعْرَابِ، وَإِنَّ أَحْوَالَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ فِي ذَلِكَ وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَتَرَاكِيبُهُمْ أَعْظَمُ وَسَيْرُهُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْسَرُ فَيَسِيرُونَ الْمَسَافَةَ الطَّوِيلَةَ فِي الزَّمَنِ الْقَصِيرِ وَلِذَلِكَ تُؤْخَذُ عَنْهُمْ أَخْبَارُ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ فِي الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ عَنَّا بِسَبَبِ سُرْعَةِ حَرَكَتِهِمْ وَتَنَقُّلِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَاِتَّخَذَهُمْ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَعْمَالٍ تَعْجِزُ عَنْهَا الْبَشَرُ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

أُعِيذُهُ بِالْكَعْبَةِ الْمَسْتُورَهْ ... وَدَعَوَاتِ ابْنِ أَبِي مَحْذُورَهْ

وَمَا تَلَا مُحَمَّدٌ مِنْ سُورَهْ ... إنِّي إلَى حَيَاتِهِ فَقِيرَهْ

وَإِنَّنِي بِعَيْشِهِ مَسْرُورَهْ

فَمَضَى الْجَانُّ أَيْ وَهُوَ فِي صُورَةِ حَيَّةٍ نَحْوَ الطَّوَافِ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ مُنْقَلِبًا حَتَّى إذَا كَانَ بِبَعْضِ دُورِ بَنِي سَهْمٍ عَرَضَ لَهُ شَابٌّ مِنْ بَنِي سَهْمٍ أَحْمَرُ أَكْثَفُ أَزْرَقُ أَحُولُ أَعْسَرُ فَقَتَلَهُ فَثَارَتْ بِمَكَّةَ غَبَرَةٌ حَتَّى لَمْ تُبْصَرْ لَهَا الْجِبَالُ قَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ وَبَلَغَنَا أَنَّهُ إنَّمَا تَثُورُ تِلْكَ الْغَبَرَةُ عِنْدَ مَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ الْجِنِّ قَالَ فَأَصْبَحَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ عَلَى فِرَاشِهِمْ مَوْتَى كَثِيرٌ مِنْ قِبَلِ الْجِنِّ فَكَانَ فِيهِمْ سَبْعُونَ شَيْخًا أَصْلَعَ سِوَى الشَّبَابِ قَالَ فَنَهَضَتْ بَنُو سَهْمٍ وَحُلَفَاؤُهَا وَمَوَالِيهَا وَعَبِيدُهَا فَرَكِبُوا الْجِبَالَ وَالشِّعَابَ بِالثَّنِيَّةِ فَمَا تَرَكُوا حَيَّةً وَلَا عَقْرَبًا وَخُنْفُسَاءَ وَلَا شَيْئًا مِنْ الْهَوَامِّ يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إلَّا قَتَلُوهُ فَأَقَامُوا بِذَلِكَ ثَلَاثًا فَسَمِعُوا فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ هَاتِفًا يَهْتِفُ بِصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٍّ يُسْمَعُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اللَّهَ اللَّهَ فَإِنَّ لَكُمْ أَحْلَامًا وَعُقُولًا أَعْذِرُونَا أَعْذِرُونَا مِنْ بَنِي سَهْمٍ فَقَدْ قَتَلُوا مِنَّا أَضْعَافَ مَا قَتَلْنَا مِنْهُمْ اُدْخُلُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِصُلْحٍ نُعْطِهِمْ وَيُعْطُونَا الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا يَعُودَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ بِسُوءٍ أَبَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ وَاسْتَوْثَقُوا لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فَسُمِّيَتْ بَنُو سَهْمٍ الْعَيَاطِلَةَ قَتَلَةَ الْجِنِّ اهـ.

الْمُرَادُ مِنْهُ فَانْظُرْهُ. وَثَالِثُهَا: تَفْضِيلُ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ بِجَوْدَةِ الْبِنْيَةِ فَإِنَّ بِنْيَةَ الذَّهَبِ مُلْتَزِزَةٌ مُتَدَاخِلَةٌ وَبِنْيَةَ الْفِضَّةِ مُتَفَشْفِشَةٌ رَخْوَةٌ، وَسَبَبُ ذَلِكَ كَمَا قِيلَ إنَّ طَبْخَ الذَّهَبِ طَالَ تَحْتَ الْأَرْضِ بِحَرِّ الشَّمْسِ أَرْبَعَةَ آلَافِ سَنَةٍ، وَالْفِضَّةُ لَمْ يَحْصُلْ لَهَا ذَلِكَ فَكَانَتْ بِنْيَةُ الذَّهَبِ أَفْضَلَ مِنْ بِنْيَةِ الْفِضَّةِ. الْقَاعِدَةُ الْعِشْرُونَ: التَّفْضِيلُ بِاخْتِيَارِ الرَّبِّ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى مِنْ يَشَاءُ وَلِمَا يَشَاءُ عَلَى مَا يَشَاءُ؛ بِأَنْ يُفَضِّلَ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى الْآخَرِ كَتَفْضِيلِ شَاةِ الزَّكَاةِ عَلَى شَاةِ التَّطَوُّعِ، وَتَفْضِيلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ دَاخِلَ صَلَاةِ الْفَرْضِ عَلَى الْفَاتِحَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَحَجِّ الْفَرْضِ عَلَى تَطَوُّعِهِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَفْضَلُ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَكَتَفْضِيلِ الْأَذْكَارِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مِثْلِهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ (خَاتِمَةٌ) نَسْأَلُ اللَّهَ حُسْنَهَا. فِي مُهِمَّاتٍ: (الْمُهِمُّ الْأَوَّلُ) أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَزْمَانِ وَالْبِقَاعِ قِسْمَانِ: الْأَوَّلُ: دُنْيَوِيٌّ، كَتَفْضِيلِ الرَّبِيعِ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَتَفْضِيلِ بَعْضِ الْبُلْدَانِ بِالثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَطِيبِ الْهَوَاءِ وَمُوَافَقَةِ الْأَهْوَاءِ.

وَالثَّانِي: دِينِيٌّ، كَتَفْضِيلِ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْمِنَةِ بِإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ وَمَغْفِرَةِ الزَّلَّاتِ وَإِعْطَاءِ السُّؤَالِ وَنَيْلِ الْآمَالِ، وَرَمَضَانَ عَلَى الشُّهُورِ، وَعَاشُورَاءَ وَيَوْمِ عَرَفَةَ وَأَيَّامِ الْبِيضِ وَالْجُمُعَةِ وَالْخَمِيسِ وَالِاثْنَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَفْضِيلِهِ وَتَعْظِيمِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ مِنْ الْأَزْمِنَةِ وَكَتَفْضِيلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَعَرَفَةَ وَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَمَرْمَى الْجِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْبِقَاعِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى غَيْرِهَا وَمِنْ الْأَقَالِيمِ الْمُفَضَّلَةِ شَرْعًا الْيَمَنُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْإِيمَانُ يَمَانِيٌّ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ» وَالْمَغْرِبُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ قَائِمِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» .

(الْمُهِمُّ الثَّانِي) الْمُفَضَّلَاتُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>