غَيْرَ أُمُورٍ قَلِيلَةٍ جِدًّا أُطْلِقَ فِيهَا التَّخْيِيرُ وَمُرَادُهُمْ التَّخْيِيرُ عَلَى بَابِهِ كَمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي أَرْبَعِ حَقَائِقَ وَخَمْسٍ بَنَاتِ لَبُونٍ يَأْخُذُ أَيَّهَا شَاءَ مِنْ صَاحِبِ الْمَاشِيَةِ إذَا وَجَدَ إبِلَهُ مِائَتَيْنِ فَإِنَّ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَقَدْ وُجِدَ الْأَمْرَانِ فَإِنَّ الْمِائَتَيْنِ أَرْبَعُ خَمْسِينَاتٍ وَخَمْسُ أَرْبَعِينَاتِ فَيُخَيَّرُ هَاهُنَا إذَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَرْجَحَ لِلْفُقَرَاءِ فَمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا هُوَ الْأَرْجَحُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَلَمْ يَجْتَهِدْ لَهُمْ وَلَمْ يَنْصَحْ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ» فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْأَرْجَحِ لِلْفُقَرَاءِ وَكَذَلِكَ بَيْعُ مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ أَحَدِ مُشْتَرِيَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ أَوْ تَزْوِيجُ الْيَتِيمَةِ مِنْ كُفُوَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ أَوْ تَوْلِيَةُ الْقَضَاءِ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ وَنَحْوُ هَذَا فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ مُسَاوُونَ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْخِيرَةِ الْمُخْتَصَّةِ وَلَا وُجُوبَ هَاهُنَا أَلْبَتَّةَ بَلْ لَهُمْ التَّرْجِيحُ بِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ ضَمِيمَةٍ إلَيْهَا كَالْمُكَلَّفِ فِي إخْرَاجِ شَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَإِطْلَاقُ الْخِيرَةِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ حَقِيقَةٌ وَفِي تِلْكَ الصُّوَرِ فَهِيَ وُجُوبٌ مَحْضٌ بَلْ بِمَعْنَى عَدَمِ التَّحَتُّمِ ابْتِدَاءً وَكَوْنُ الِاجْتِهَادِ لَهُ مَدْخَلٌ فِي ذَلِكَ الْقِسْمِ الْمُحَتَّمِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ التَّخْيِيرَاتِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَخْيِيرِ الْأَئِمَّةِ وَقَاعِدَةِ تَخْيِيرِ آحَادِ الْمُكَلَّفِينَ وَأَنَّ الثَّانِيَ خِيرَةٌ حَقِيقَةً وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُهُ مَجَازٌ وَوُجُوبُ صَرْفٍ كَمَا تَقَدَّمَ مُفَصَّلًا مُمَثَّلًا.
(فَائِدَةٌ) يُطْلَقُ التَّخْيِيرُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيُطْلَقُ التَّخَيُّرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبٌ بِخُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَخْيِيرِ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُسَارَى وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ يَقَعُ وَاجِبًا بِخُصُوصِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ قَتْلًا أَوْ فِدَاءً مَثَلًا وَبِعُمُومِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الْخِصَالِ الْخَمْسَةِ وَيَكُونُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ وَاجِبٍ بِخُصُوصِهِ وَلَا بِعُمُومِهِ كَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْمُبَاحَاتِ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَنَحْوِهِمَا فَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ مَثَلًا فَالتَّمْرُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا بِخُصُوصِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ تَمْرٌ وَلَا بِعُمُومِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الْمُتَنَاوَلَاتِ وَيَكُونُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَكِلَاهُمَا وَاجِبٌ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهِ دُونَ خُصُوصِهِ كَالتَّخْيِيرِ فِي كَفَّارَةِ الْحِنْثِ فَإِنَّ الْعِتْقَ مَثَلًا وَاجِبٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الْخِصَالِ وَغَيْرُ وَاجِبٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ عِتْقٌ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْخَصْلَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ فَقَدْ ظَهَرَ لَك أَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَهُمَا قَدْ يَتَّصِفَانِ بِالْوُجُوبِ مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِمَا وَعُمُومِهِمَا وَقَدْ لَا يَتَّصِفَانِ بِهِ لَا مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِمَا وَلَا عُمُومِهِمَا وَقَدْ يَتَّصِفَانِ بِهِ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهَا دُونَ خُصُوصِهِمَا وَأَمَّا الِاتِّصَافُ بِالْوُجُوبِ مِنْ جِهَةِ الْخُصُوصِ دُونَ الْعُمُومِ فَمُحَالٌ شَرْعًا وَعَقْلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُصُوصَ يَتَوَقَّفُ عَلَى
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
أَلْبَتَّةَ وَبَعْدَ حُصُولِ سَبَبِهِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا فَلَا تَحْصُلُ لَهُ فِي التَّمْلِيكِ الْحَالَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ الْقَابِلَةُ لِلِانْتِزَاعِ وَالْإِبْدَالِ بِغَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ فَهُوَ نَظِيرُ مَا حَازَهُ الْأَجْنَادُ وَالْأُمَرَاءُ مِنْ إقْطَاعَاتِهِمْ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ غَيْرِهِ لِتَقَرُّرِ مِلْكِهِمْ عَلَيْهِ نَعَمْ وَقَعَ فِي سَبَبِهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِقَوْلِ الْإِمَامِ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ لَا بِمُجَرَّدِ الْقَتْلِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُسْتَحَقُّ بِمُجَرَّدِ الْقَتْلِ وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مَا تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَصَرُّفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْهَا عَلَى أَنَّهُ بِالْأَمَانَةِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إذْنِ الْإِمَامِ وَمَا وَقَعَ مِنْهَا بِتَصَرُّفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَرِيقِ الْقَضَاءِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضَاءِ الْقَاضِي وَمَا وَقَعَ مِنْهَا بِطَرِيقِ الْفُتْيَا وَالتَّبْلِيغِ يُسْتَحَقُّ بِدُونِ قَضَاءِ قَاضٍ وَإِذْنِ إمَامٍ، فَمُسْتَنَدُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِفُتْيَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ لَا بِتَصَرُّفِهِ بِطَرِيقِ الْإِمَامَةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّبْلِيغِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولٌ وَالتَّبْلِيغُ شَأْنُ الرِّسَالَةِ وَحَمْلُ تَصَرُّفَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْغَالِبِ طَرِيقٌ حَسَنٌ وَبِذَلِكَ اسْتَنَدَا كَمَالِكٍ فِي حَمْلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» وَقَالُوا إذْنُ الْإِمَامِ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْمِلْكِ بِالْإِحْيَاءِ وَمَشَى أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي السَّلَبِ وَالْإِحْيَاءِ عَلَى قَاعِدَتِهِ فَجَعَلَهُمَا مِنْ بَابِ التَّصَرُّفِ بِالْإِمَامَةِ وَأَمَّا مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَهُوَ وَإِنْ مَشَى فِي الْإِحْيَاءِ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْغَالِبِ فِي الْفُتْيَا وَالتَّبْلِيغِ دُونَ الْإِمَامَةِ إلَّا أَنَّهُ خَالَفَ فِي السَّلَبِ أَصْلَهُ الْمَذْكُورَ فَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ التَّصَرُّفِ بِالْإِمَامَةِ بِسَبَبِ أُمُورٍ
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ حَمْلَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» عَلَى التَّصَرُّفِ بِالْإِمَامَةِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ حَتَّى يَقُولَ الْإِمَامُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ أَبْلَغُ وَأَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْفُتْيَا وَالتَّبْلِيغِ وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِمُجَرَّدِ الْقَتْلِ فِي مُنَافَاتِهِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: ٤١] فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ لِلْغَانِمِينَ كَمَا أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: ١١]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute