للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِصِفَاتِ اللَّهِ الْفِعْلِيَّةِ كَالرِّزْقِ وَالْخَلْقِ وَلَا يَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحَلِفِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَدِيمَةِ مَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ أَيُّوبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ بَلَى وَعِزَّتِك لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِك فَإِنْ قُلْت فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ السَّائِلِ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ «أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ» فَقَدْ حَلَفَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَبِي الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ مَخْلُوقٌ قُلْت قَدْ اُخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْمُوَطَّإِ بَلْ أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ فَلَنَا مَنْعُهَا عَلَى الْخِلَافِ فِي زِيَادَةِ الْعَدْلِ فِي رِوَايَتِهِ أَوْ نُجِيبُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ قَالَهُ صَاحِبُ الِاسْتِذْكَارِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَوْ نَقُولُ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ تَوْطِئَةِ الْكَلَامِ لَا الْحَلِفَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ قَاتَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا أَشْجَعَهُ وَلَا يُرِيدُونَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ بَلْ تَوْطِئَةَ الْكَلَامِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «تَرِبَتْ يَدَاك وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ» وَلَمْ يُرِدْ الدُّعَاءَ عَلَيْهَا بِالْفَقْرِ الَّذِي يُكَنَّى بِالْإِلْصَاقِ بِالتُّرَابِ تَقُولُ الْعَرَبُ الْتَصَقَتْ يَدُهُ بِالْأَرْضِ وَبِالتُّرَابِ إذَا افْتَقَرَ بَلْ أَرَادَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَوْطِئَةَ الْكَلَامِ.

فَإِذَا تَقَرَّرَ الْقَسَمُ الْمُخْتَلِفُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فِي الْحَلِفِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ غَيْرَهُ بِأَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ بِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ بِأَنْ يَقُولَ بِحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْك أَوْ بِحُرْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ إلَّا غَفَرْت لَنَا أَوْ بِحَقِّ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ إلَّا سَتَرْت عَلَيْنَا أَوْ بِحُرْمَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَالطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ إلَّا هَدَيْتنَا هَدْيَهُمْ وَسَلَكْت بِنَا سَبِيلَهُمْ فَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَوْ يَمْتَنِعُ لِأَنَّهُ قَسَمٌ وَتَعْظِيمُ الْقَسَمِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَوَقَّفَ فِي هَذَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَرُجِّحَ عِنْدَهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِهِ وَقَالَ الْكُلُّ قَسَمٌ وَتَعْظِيمٌ فَإِنْ قُلْت قَدْ حَلَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَكَيْفَ يُخْتَلَفُ فِي الْجَوَازِ مَعَ وُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ مُتَكَرِّرًا.

قُلْت: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْوَاقِعِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِيهِ كُلُّهُ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَقْسِمُ بِرَبِّ الشَّمْسِ أُقْسِمُ بِرَبِّ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَكَذَا الْبَوَاقِي فَمَا وَقَعَ الْحَلِفُ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى دُونَ خَلْقِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّمَا أَقَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا تَنْبِيهًا لِعِبَادِهِ عَلَى عَظَمَتِهَا عِنْدَهُ فَيُعَظِّمُونَهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْحَجْرِ عَلَى الْخَلْقِ فِي شَيْءٍ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ الْحَجْرُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ الْمَلِكُ الْمَالِكُ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَأْمُرُ بِمَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ وَلَا نَكِيرٍ فَيُحَرِّمُ عَلَى عِبَادِهِ مَا يَشَاءُ وَلَا يَحْرُمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَإِنْ قُلْت إذَا قُلْنَا بِالْحَلِفِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَعْنَوِيَّةِ كَالْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِهِمَا فَهَلْ الْقُرْآنُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَسَائِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ؟ أَمْ لَيْسَ كَذَلِكَ قُلْت قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَيْسَتْ مِنْهَا وَإِنْ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

يَفْعَلَهُ الْمَرْءُ مَعَ الرَّئِيسِ وَالْوَلَدُ مَعَ الْوَالِدِ وَالْحَقِيرُ مَعَ الشَّرِيفِ وَكَتَمْكِينِهِمْ مِنْ الْوِلَايَاتِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِقَهْرِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ أَوْ ظُهُورِ الْعُلُوِّ وَسُلْطَانِ الْمُطَالَبَةِ وَإِنْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْأَنَاةِ وَالرِّفْقِ لِأَنَّ الرِّفْقَ وَالْأَنَاةَ فِي هَذَا الْبَابِ نَوْعٌ مِنْ الرِّئَاسَةِ وَالسِّيَادَةِ وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ مِنْ الْمَكَارِمِ فَهِيَ دَرَجَةٌ رَفِيعَةٌ أَوْصَلْنَاهُمْ إلَيْهَا وَعَظَّمْنَاهُمْ بِسَبَبِهَا وَرَفَعْنَا قَدْرَهُمْ بِإِيثَارِهِمْ بِهَا وَكَأَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ خَادِمًا عِنْدَهُمْ أَوْ أَجِيرًا يُؤْمَرُ عَلَيْهِ وَيُنْهَى أَوْ يَكُونَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَكِيلًا فِي الْمُحَاكَمَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ وُلَاةِ الْأُمُورِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا إثْبَاتٌ لِسُلْطَانِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْلِمِ فَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ وَهُوَ مَحْمَلُ النَّهْيِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَغَيْرِهِمَا.

فَلِذَا لَمَّا أَتَى الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخَلِيفَةَ بِمِصْرَ وَوَجَدَ عِنْدَهُ وَزِيرًا رَاهِبًا قَدْ سَلَّمَ إلَيْهِ قِيَادَهُ وَأَخَذَ يَسْمَعُ رَأْيَهُ وَيُنَفِّذُ كَلِمَاتِهِ الْمَسْمُومَةَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ الشَّيْخُ مِمَّنْ يَسْمَعُ الْخَلِيفَةُ قَوْلَهُ فِي مِثْلِ هَذَا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ الْمُغْضَبِ وَالْوَزِيرُ الرَّاهِبُ جَالِسٌ بِإِزَائِهِ وَأَنْشَدَهُ:

يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الَّذِي جُودُهُ ... يَطْلُبُهُ الْقَاصِدُ وَالرَّاغِبُ

إنَّ الَّذِي شُرِّفْت مِنْ أَجْلِهِ ... يَزْعُمُ هَذَا أَنَّهُ كَاذِبٌ

فَاشْتَدَّ غَضَبُ الْخَلِيفَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ وَأَمَرَ بِالرَّاهِبِ فَسُحِبَ وَضُرِبَ وَقُتِلَ وَأَقْبَلَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ بَعْدَ عَزْمِهِ عَلَى إيذَائِهِ لَكِنَّهُ لَمَّا اسْتَحْضَرَ تَكْذِيبَ الرَّاهِبِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي هُوَ سَبَبُ شَرَفِهِ وَشَرَفِ آبَائِهِ وَأَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ بَعَثَهُ ذَلِكَ عَلَى الْبُعْدِ عَنْ السُّكُونِ إلَيْهِ وَالْمَوَدَّةِ لَهُ وَأَبْعَدَهُ عَنْ مَنَازِلِ الْعِزِّ إلَى مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ أَهِينُوهُمْ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ وَكَتَبَ إلَيْهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا بِالْبَصْرَةِ لَا يُحْسِنُ ضَبْطَ خَرَاجِهَا إلَّا هُوَ وَقَصَدَ وِلَايَتَهُ عَلَى جِبَايَةِ الْخَرَاجِ لِضَرُورَةِ تَعَذُّرِ غَيْرِهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ فِي الْكِتَابِ مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ يَعْنِي هَبْ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ فَمَا كُنْت صَانِعًا فَأَصْنَعْهُ السَّاعَةَ وَاسْتَغْنِ عَنْهُ وَاصْرِفْ اهـ.

قِيلَ يُفِيدُ أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

<<  <  ج: ص:  >  >>