اللَّفْظُ السَّادِسُ الْمِيثَاقُ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا قَالَ عَلَيَّ مِيثَاقُ اللَّهِ تَعَالَى وَحَنِثَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَالْمِيثَاقُ مَأْخُوذٌ مِنْ التَّوَثُّقِ وَهُوَ التَّقْوِيَةُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَهْدِ وَالْيَمِينِ أَمَّا الْيَمِينُ فَهُوَ الْقَسَمُ وَأَمَّا الْعَهْدُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ الِالْتِزَامُ وَالْمِيثَاقُ هُوَ الْعَهْدُ الْمُوَثَّقُ بِالْيَمِينِ فَيَكُونُ الْمِيثَاقُ مُرَكَّبًا مِنْ الْعَهْدِ وَالْيَمِينِ مَعًا كَذَا كَانَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْقُلُهُ عَنْ اللُّغَةِ وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْنَى الْمِيثَاقِ وَالْعَهْدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَالْقَسَمُ أَيْضًا يَرْجِعُ إلَى الْكَلَامِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُقْسَمِ بِهِ وَإِذَا كَانَا مَعًا يَرْجِعَانِ إلَى مَعْنَى الْكَلَامِ فَالْمُرَكَّبُ مِنْهُمَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْكَلَامِ قَطْعًا لِأَنَّ الْمَرْكَبَاتِ تَابِعَةٌ لِلْمُفْرَدَاتِ إذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَعْنَى الْمِيثَاقِ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الْكَلَامِ وَرَدَ عَلَيْهِ الْإِشْكَالُ الْوَارِدُ مِنْ لَفْظِ عَلَيَّ وَكَيْفَ يَصِحُّ الْتِزَامُ مِيثَاقِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعَهْدِ وَالْكَفَالَةِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ بِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ صَرِيحِ اللُّغَةِ بَلْ ذَلِكَ إمَّا بِالنِّيَّةِ أَوْ الْعُرْفِ أَوْ النَّقْلِ وَأَنَّ الْإِضَافَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِمِيثَاقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ كَلَامٌ نَفْسِيٌّ وَمِيثَاقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ كَلَامٌ لَفْظِيٌّ لِسَانِيٌّ حَادِثٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: ٧] فَإِنَّ هَذَا الْتِزَامٌ لَفْظِيٌّ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ بِقَوْلِهِ وَرَبِّي فَيَكُونُ مِيثَاقًا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: ١] إلَى قَوْلِهِ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: ٩] {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: ١٠] الْتَزَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ فَإِنَّهُ يَجِدُ عِنْدَهُ تَعَالَى فَلَاحًا وَأَنَّ مَنْ دَسَّاهَا أَيْ دَسَّهَا بِالْمَعَاصِي فَأُبْدِلَتْ إحْدَى السِّينَيْنِ أَلِفًا فَإِنَّهُ يَجِدُ عِنْدَهُ تَعَالَى خَيْبَةً.
وَأَكَّدَ هَذَا الِالْتِزَامَ بِالْقَسَمِ السَّابِقِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: ١] إلَى قَوْلِهِ {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: ٧] فَهَذَا كُلُّهُ قَسَمٌ مُؤَكِّدٌ لِذَلِكَ الِالْتِزَامِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كَثِيرٌ مِنْ الِالْتِزَامَاتِ لِتَوَكُّدَةِ بِالْحَلِفِ وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا مِيثَاقُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي شَرَعَهُ لَنَا فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَلْتَزِمَ الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْنَا لِلْعِبَادِ وَأَنْ نُزِيلَ الرِّيبَةَ مِنْ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُ تِلْكَ الْحُقُوقِ بِالْأَيْمَانِ وَالتَّأْكِيدِ فِي ذَلِكَ النَّافِي لِتِلْكَ الرِّيبَةِ فَهَذَا الْمِيثَاقُ يُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إضَافَةَ الْمَشْرُوعِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَفَالَةِ وَالشَّهَادَةِ فِي {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} [المائدة: ١٠٦] .
وَإِذَا احْتَمَلَ الْمِيثَاقُ الْمُضَافُ إلَيْهِ تَعَالَى هَذِهِ الْمَوَاثِيقَ الثَّلَاثَةَ وَيَكُونُ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي أَيْ ذَلِكَ وَقَعَ أَوْ كَانَ مُرَادًا صَارَ اللَّفْظُ دَائِرًا بَيْنَ مَا هُوَ مُوجِبٌ وَبَيْنَ مَا هُوَ لَيْسَ بِمُوجِبٍ وَهُمَا الْقِسْمَانِ الْآخَرَانِ الْحَادِثَانِ الْمِيثَاقُ اللَّفْظِيُّ الدَّالُّ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ الْقَدِيمِ وَالْمِيثَاقُ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّنَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا حِينَئِذٍ لِأَنَّ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (اللَّفْظُ السَّادِسُ الْمِيثَاقُ إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِيهِ) قُلْت مَا قَالَهُ صَحِيحٌ غَيْرُ قَوْلِهِ وَالْقَسَمُ أَيْضًا يَرْجِعُ إلَى الْكَلَامِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُقْسَمِ بِهِ فَإِنَّ الْمُقْسِمَ لَيْسَ خَبَرًا عَنْ تَعْظِيمِ الْمُقْسَمِ بِهِ بَلْ هُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِنْشَاءِ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
قَدْ أَمَرَ بِهَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» أَيْ قَاطِعٌ نَعَمْ إذَا تَجَرَّدَتْ الْعِبَادَةُ عَنْ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ زَادَ الْأَجْرُ وَعَظُمَ الثَّوَابُ وَإِذَا لَمْ تُجَرَّدْ الْعِبَادَةُ عَنْهَا نَقَصَ الْأَجْرُ وَإِنْ كَانَ لَا سَبِيلَ إلَى الْإِثْمِ وَالْبُطْلَانِ.
وَأَمَّا الرِّيَاءُ فِيهَا فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ شِرْكًا وَتَشْرِيكًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي طَاعَتِهِ لِمَنْ يَرَى وَيُبْصِرُ مِنْ الْخَلْقِ لِأَحَدِ أَغْرَاضٍ ثَلَاثَةٍ التَّعْظِيمُ وَجَلْبُ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأَخِيرَانِ يَتَفَرَّعَانِ عَنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إذَا عُظِّمَ انْجَلَبَتْ إلَيْهِ الْمَصَالِحُ وَانْدَفَعَتْ عَنْهُ الْمَفَاسِدُ فَهُوَ الْغَرَضُ الْكُلِّيُّ فِي الْحَقِيقَةِ فَيَقْتَضِي رُؤْيَةَ النَّفْعِ أَوْ الضُّرِّ لِغَيْرِهِ تَعَالَى فَيُنَافِي مَا أَشَارَ لَهُ سَيِّدِي عَلِيُّ وفا بِقَوْلِهِ (وَعِلْمُك أَنَّ كُلَّ الْأَمْرِ أَمْرِي هُوَ الْمَعْنَى الْمُسَمَّى بِاتِّحَادِي) قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ وَلَا بُدَّ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ مِنْ حَظٍّ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَإِنْ تَفَاوَتُوا أَهُوَ ذَلِكَ إمَّا بِأَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَالْمُتَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَقْصِدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يُعَظِّمَهُ النَّاسُ أَوْ يُعَظَّمَ فِي قُلُوبِهِمْ فَيَصِلَ إلَيْهِ نَفْعُهُمْ أَوْ يَنْدَفِعَ عَنْهُ ضَرَرُهُمْ فَيُسَمَّى رِيَاءَ الشِّرْكِ لِأَنَّهُ لِلْخَلْقِ وَلِلَّهِ تَعَالَى وَإِمَّا بِأَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ لَا يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ بَلْ النَّاسَ فَقَطْ فَيُسَمَّى رِيَاءَ الْإِخْلَاصِ لِأَنَّهُ لَا تَشْرِيَك فِيهِ بَلْ خَالِصٌ لِلْخَلْقِ كَانَ مُضِرًّا بِالْعِبَادَةِ وَمُحَرَّمًا عَلَى الْمُكَلَّفِ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْمَعْصِيَةِ وَالْإِثْمِ وَالْبُطْلَانِ فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الْمُحَاسِبِيُّ وَغَيْرُهُ وَيُعَضِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ لَهُ أَوْ تَرَكْتُهُ لِشَرِيكِي» وقَوْله تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: ٥] فَإِنَّ الْحَدِيثَ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ تَعَالَى لَيْسُوا مَأْمُورِينَ بِهِ وَمَا هُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَبِالْجُمْلَةِ فَفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يُجَاهِدُ لِيَقُولَ النَّاسُ إنَّهُ شُجَاعٌ أَوْ لِيُعَظِّمَهُ الْإِمَامُ فَيُكْثِرَ عَطَاءَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَيَكُونَ رِيَاءً حَرَامًا وَبَيْنَ مَنْ يُجَاهِدُ لِيُحَصِّلَ السَّبَايَا وَالْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ مِنْ جِهَةِ أَمْوَالِ الْعَدُوِّ فَلَا يَضُرُّهُ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ إجْمَاعًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute