بَابِ الْكَلَامِ وَالْإِبَاحَةِ وَالنِّيَّةُ مِنْ بَابِ الْمَقَاصِدِ وَالْإِرَادَةِ فَلَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَصْدُ الْإِنْسَانِ لِعِتْقِ مِلْكِ غَيْرِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنْ دَفَعَ لَهُ جُعْلًا أَجْزَأَ وَإِلَّا فَلَا لِلْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ فَتَخْرُجُ بِالْجُعْلِ عَنْ الْهِبَةِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى قَصْدٍ فَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ هِيَ سِرُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مُشْكِلَةٌ وَأَشْكَلَ مِنْهَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ عَبْدُ الْحَقِّ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعِتْقُ عَنْ الْغَيْرِ تَطَوُّعًا بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَهَذَا أَشْكَلُ مِنْ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ دَلَالَةُ الْحَالِ دُونَ الْمَقَالِ وَهَاهُنَا لَا دَلَالَةَ حَالٍ وَلَا يُقَالُ فَلَا يُتَّجَهُ وَيَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ الْعِتْقِ عَنْ الْوَاجِبِ.
وَمَنْ يَشْتَرِطُ الْإِذْنَ يَقُولُ الْإِذْنُ تَضَمَّنَ الْوَكَالَةَ فِي نَقْلِ مِلْكِهِ لِلْآذِنِ وَعِتْقِهِ عَنْهُ بَعْدَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ وَيَكُونُ الْمَأْذُونُ لَهُ وَكِيلًا فِي الْأَمْرَيْنِ وَمُتَوَلِّيًا لِطَرَفَيْ الْعَقْدِ وَالْمُوجِبُ لِهَذِهِ التَّقَادِيرِ كُلِّهَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا التَّصَرُّفُ إلَّا بِهَا وَمَا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ إلَّا بِهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ صَوْنًا لِلْكَلَامِ عَنْ الْإِلْغَاءِ فَهَذَا تَحْرِيرُ هَذَا الْفَرْقِ وَتَحْرِيرُ مَسَائِلِهِ.
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَالَ (فَهَذِهِ الْقَوَاعِدُ هِيَ سِرُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مُشْكِلَةٌ وَأَشْكَلُ مِنْهَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ عَبْدُ الْحَقِّ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعِتْقُ عَنْ الْغَيْرِ تَطَوُّعًا بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَهَذَا أَشْكَلُ مِنْ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ دَلَالَةُ الْحَالِ دُونَ الْمَقَالِ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ) ، قُلْت لَا إشْكَالَ فِي ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ عِبَادَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا وَلَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الْإِذْنِ وَلَا إلَى تَقْدِيرِ الْمِلْكِ وَالْوَكَالَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ بَعْدُ صَحِيحٌ.
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
فِي الْمُقَدِّمَاتِ فِي الصَّرِيحِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فَعِنْدَ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ لَفْظُ الطَّلَاقِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ، وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ الصَّرِيحُ الطَّلَاقُ وَمَا اشْتَهَرَ مَعَهُ كَالْخَلِيَّةِ وَالْبَرِّيَّةِ وَنَحْوِهِمَا، وَقِيلَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ كَالطَّلَاقِ وَالسَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: ١] وقَوْله تَعَالَى {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: ٢٢٩] وقَوْله تَعَالَى {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: ١٣٠] ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ وَبِمَاذَا يَلْزَمُ هَلْ بِالنِّيَّةِ فَقَطْ لِمَالِكٍ وَيُرِيدُ بِالنِّيَّةِ التَّطْلِيقَ بِالْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ، وَقِيلَ بِاللَّفْظِ فَقَطْ قَالَ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا هَذَا فِي الْفُتْيَا، وَأَمَّا فِي الْقَضَاءِ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتِهِ وَلَا يُصَدَّقُ اتِّفَاقًا اهـ
(وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ) مِنْ الثَّلَاثَةِ فِي الصَّرِيحِ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ فَفِي مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ وَلَفْظَةُ طَلَّقْت وَأَنَا طَالِقٌ أَوْ أَنْتِ أَوْ مُطَلَّقَةٌ أَوْ الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ لَا مُنْطَلِقَةٌ وَتَلْزَمُ وَاحِدَةٌ إلَّا لِنِيَّةِ أَكْثَرَ اهـ قَالَ الْبُنَانِيُّ أَيْ لَفْظُ الصَّرِيحِ مَحْصُورٌ فِي الْأَلْفَاظِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى مَا فِي ضج عَنْ الْقَرَافِيِّ مِنْ أَنَّ كَلَامَ الْفُقَهَاءِ يَقْتَضِي أَنَّ الصَّرِيحَ هُوَ مَا كَانَ فِيهِ الْحُرُوفُ الثَّلَاثَةُ الطَّاءُ وَاللَّامُ وَالْقَافُ وَهُوَ مُشْكِلٌ لِشُمُولِهِ نَحْوُ مُنْطَلِقَةٍ وَمَطْلُوقَةٍ فَلِذَا عَدَلَ هُنَا عَنْ ضَبْطِ الصَّرِيحِ بِمَا ذَكَرَ إلَى ضَبْطِهِ بِالْأَلْفَاظِ الْأَرْبَعَةِ اهـ بِلَفْظِهِ أَيْ وَنَحْوِ مُنْطَلِقَةٍ وَمَطْلُوقَةٍ مِنْ الْكِنَايَاتِ الْخَفِيَّةِ لَا الظَّاهِرَةِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مِنْ الصَّرِيحِ كَمَا سَيَأْتِي فَمِنْ هُنَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْتِ مُطْلَقَةٌ بِسُكُونِ الطَّاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ لَا تَكُونُ طَلَاقًا إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالنِّسَاءِ وَهُوَ مُتَّجَهٌ
(وَالْقَوْلُ الثَّانِي) مِنْ الثَّلَاثَةِ فِي الَّذِي يَلْزَمُ بِهِ الصَّرِيحُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْخَرَشِيِّ عِنْدَ قَوْلِ الْخَرَشِيِّ قَوْلُهُ وَفِي لُزُومِهِ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ خِلَافٌ يَعْنِي أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَنْشَأَ الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ كَمَا يُنْشِئُهُ بِلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ بِلِسَانِهِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِذَلِكَ أَوْ لَا يَلْزَمُهُ خِلَافٌ فِي التَّشْهِيرِ، وَلَيْسَ مَعْنَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ أَنْ يَنْوِيَ الطَّلَاقَ وَيُصَمِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَبْدُوَ لَهُ، وَلَا أَنْ يَعْتَقِدَ الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ بِلِسَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ طَلَاقٌ إجْمَاعًا اهـ بِلَفْظِهِ.
وَالْكِنَايَةُ لُغَةً مَا فِيهِ خَفَاءٌ وَمِنْهُ كَنَيْتَهُ أَبَا عَبْد اللَّهِ كَأَنَّك أَخْفَيْت الِاسْمَ بِالْكُنْيَةِ تَعْظِيمًا لَهُ وَفِي الصِّحَاحِ يُقَالُ كَنَيْت وَكَنَوْتُ وَكُنْيَتُهُ بِضَمِّ الْكَافِّ وَكَسْرِهَا وَاصْطِلَاحًا هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ لُغَةً وَسِرُّ الْفَرْقِ إمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْمَشْهُورِ مِنْ الثَّلَاثَةِ فِي الصَّرِيحِ فَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ إمَّا أَنْ يَدُلَّ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَإِمَّا أَنْ لَا يَدُلَّ بِالْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ فَإِنْ دَلَّ اللَّفْظُ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ صِيغَةُ الطَّلَاقِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ، نَحْوُ أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مُطَلَّقَةٌ، وَقَدْ طَلَّقْتُك أَوْ الطَّلَاقُ لَازِمٌ لِي أَوْ قَدْ أَوْقَعْت عَلَيْك الطَّلَاقَ وَأَنَا طَالِقٌ مِنْك كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ لِخَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ فَهُوَ الصَّرِيحُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعٌ لِإِزَالَةِ قَيْدِ الْعِصْمَةِ خَاصَّةً عَلَى الصَّحِيحِ لَا لِإِزَالَةِ مُطْلَقِ الْقَيْدِ وَخَصَّهُ الْعُرْفُ بِإِزَالَةِ قَيْدِ الْعِصْمَةِ خَاصَّةً كَمَا زَعَمَ الْأَصْلُ قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَكَوْنُ هَذِهِ الصِّيَغِ وَقَعَتْ فِي الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ إخْبَارَاتٌ لَا يَضُرُّ إمَّا لِأَنَّ الشَّرْعَ يُقَدِّرُ وُقُوعَ مُخْبَرِهَا قَبْلَ النُّطْقِ بِهَا بِالزَّمَنِ الْفَرْدِ لِضَرُورَةِ تَصْدِيقِهِ، وَإِذَا صَارَ صَادِقًا لَزِمَهُ مَا نَطَقَ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ كَمَا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي صِيَغِ الْعِتْقِ وَجَمِيعِ صِيَغِ الْعُقُودِ مِنْ بِعْت وَاشْتَرَيْت وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِمَّا لِأَنَّهَا كَمَا وَقَعَتْ فِيهِ إخْبَارَاتٌ كَذَلِكَ وَقَعَتْ فِيهِ إنْشَاءَاتٌ كَمَا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ فَيَبْقَى النَّظَرُ فِي كَوْنِهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ