وَالْوَاقِعُ قَبْلَ السَّبَبِ مِنْ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَالصَّلَاةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالصَّوْمِ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْإِيَاسَ سَبَبًا لِلْعِدَّةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَهُ عَلَيْهَا بِصِيغَةِ الْفَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: ٤] فَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى السَّبَبِيَّةِ فِي الْإِيَاسِ مِنْ وَجْهَيْنِ
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ كَقَوْلِنَا اقْطَعُوا السَّارِقَ وَاجْلِدُوا الزَّانِيَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الْمُتَقَدِّمَةَ أَسْبَابٌ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا كَذَلِكَ هَاهُنَا يَكُونُ الْإِيَاسُ سَبَبًا لِلِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَالْوَاقِعُ مِنْ الْأَشْهُرِ قَبْلَ كَمَالِ التِّسْعَةِ وَاقِعٌ قَبْلَ إيَاسِنَا وَإِيَاسِهِنَّ مِنْ الْحَيْضِ، فَيَكُونُ وَاقِعًا قَبْلَ سَبَبِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيَتَعَيَّنُ اسْتِئْنَافُ ثَلَاثَةٍ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ.
وَأَمَّا الْمُطَلَّقَاتُ تَمْضِي لَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَقَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ يَمْضِي لَهُنَّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ بَعْدَ الْوَفَاةِ وَقَبْلَ عِلْمِهِنَّ بِأَنَّ تِلْكَ الْآجَالَ عِدَدٌ وَقَعَتْ بَعْدَ أَسْبَابِهَا وَهِيَ الْوَفَاةُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِلْمُ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ لَيْسَ سَبَبًا إجْمَاعًا وَالْإِيَاسُ هُنَا سَبَبٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَحَقَّقَ كَمَا تَحَقَّقَتْ الْوَفَاةُ وَالطَّلَاقُ فَلِذَلِكَ لَمْ تَحْصُلْ الْعِدَّةُ قَبْلَهُ كَمَا لَا تَعْتَدُّ قَبْلَ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ وَالتَّبَايُنُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَإِنَّمَا كَانَتْ الْعَرَبِيَّةُ وَالْقِرَاءَةُ أَغْلَبَ عَلَيْهِ اهـ.
وَأَجَابَ الْأَصْلُ عَنْ الِاحْتِمَالِ مَعَ النَّصْبِ بِأَنَّ الْمُرَجِّحَ لِجَعْلِهِ مَعْمُولًا لِطَلَاقِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَوْ تَمْيِيزٌ هُوَ أَنَّهُ مُنَكَّرٌ يَحْتَمِلُ سَبَبُ تَنَكُّرِهِ جَمِيعَ مَرَاتِبِ الْجِنْسِ وَأَعْدَادِهِ وَأَنْوَاعِهِ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ التَّنْكِيرِ فَاحْتَاجَ لِلتَّمْيِيزِ لِيَحْصُلَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْمُنَكَّرِ الْمَجْهُولِ،
وَأَمَّا الطَّلَاقُ الثَّانِي فَبِتَعْرِيفِهِ وَاسْتِغْرَاقِهِ النَّاشِئِ عَنْ لَامِ التَّعْرِيفِ يُسْتَغْنَى عَنْ الْبَيَانِ اهـ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ الِاسْتِغْرَاقُ الْمَجَازِيُّ الْحَقِيقِيُّ لِمَا عَلِمْته فِي كَلَامِ الْمُغْنِي الْمُتَقَدِّمِ فَلَا تَغْفُلْ نَعَمْ قَالَ ابْنُ الضَّائِعِ يُمْكِنُ عَلَى إرَادَةِ الْكُلِّ الْمَجْمُوعِيِّ أَيْ لَا كُلُّ فَرْدٍ فَرْدٍ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّ مَجْمُوعَ أَفْرَادِ الطَّلَاقِ ثَلَاثٌ وَالْمَجْمُوعُ خَاصٌّ، فَيَكُونُ إخْبَارًا عَنْ خَاصٍّ بِخَاصٍّ وَرَدَّهُ الشُّمُنِّيُّ بِأَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ عِنْدَهُمْ مِنْ بَابِ الْكُلِّيَّةِ أَيْ الْحُكْمِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ وَلِهَذَا امْتَنَعَ وَصْفُ الْمُفْرَدِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ حَرْفُ الِاسْتِغْرَاقِ بِنَعْتِ الْجَمْعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَإِنْ حَكَاهُ الْأَخْفَشُ فِي نَحْوِ الدِّينَارِ الصُّفْرِ وَالدَّرَاهِمِ الْبِيضِ أَمِيرٌ بِتَوْضِيحٍ
(الْوَجْهُ الثَّانِي) قَالَ الْأَمِيرُ فِي حَوَاشِي الْمُغْنِي شَنَّعَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ عَلَى الْمُصَنِّفِ يَعْنِي ابْنَ هِشَامٍ بِأَنَّهُ جَهِلَ بِمَقَامِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةَ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ فَلَا يَحْتَاجُ أَبُو يُوسُفَ إلَى مُرَاجَعَةِ الْكِسَائِيُّ قُلْنَا أَيْ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ هَذَا مِنْ تَعَاوُنِ الْعُلَمَاءِ وَمُشَارَكَتِهِمْ خُصُوصًا أَهْلَ دَوْلَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ عَيْنُ إمَامِيَّةِ أَبِي يُوسُفَ وَكَمَالِهِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِرَأْيِهِ مَعَ عَدَمِ احْتِيَاجِهِ وَهَكَذَا شَأْنُ السَّلَفِ وَلَعَمْرِي الْكِسَائِيّ أَحَدُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ وَإِمَامُ الْعَرَبِيَّةِ يَتَكَلَّمُ مَعَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ اهـ بِلَفْظِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ قَالَ الْأَمِيرُ أَيْضًا قِيلَ الصَّوَابُ أَنَّ السُّؤَالَ مِنْ الْكِسَائِيّ لِمُحَمَّدٍ قُلْنَا أَيْ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ تَعَدُّدُ الْوَاقِعَةِ مُمْكِنٌ اهـ بِلَفْظِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
٢ -
(الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ) فِي بِدَايَةِ ابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ مَالِكٍ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ دُونِ الثَّلَاثِ فِي الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك وَمِثْلُ الْبَتَّةِ وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ حَيْثُ قَالَ ذَلِكَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَهُ فِي الْخُلْعِ.
وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَيُصَدِّقُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ دُونِ الثَّلَاثِ فِيهَا؛ لِأَنَّ طَلَاقَ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بَائِنٌ وَيُقْبَلُ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ دُونِ الثَّلَاثِ فِيهَا مُطْلَقًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِالْكِنَايَاتِ كُلِّهَا مَعَ هَذِهِ الْقَرِينَةِ إلَّا بِأَرْبَعٍ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك وَاعْتَدِّي وَاسْتَبْرِي وَتَقَنَّعِي؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ الْمُحْتَمَلَةِ غَيْرِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُحْتَمَلَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِمَا إنَّهُ يَعْتَبِرُ فِي الْمُحْتَمَلَةِ نِيَّةً اهـ مُلَخَّصًا وَلَا يَخْفَاك أَنَّ إطْلَاقَهُ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ فِي تَقْسِيمِهَا مِنْ أَنَّ بَتَّةً وَحَبْلَك عَلَى غَارِبِك مِمَّا يَلْزَمُ بِهِ ثَلَاثٌ وَلَا يَنْوِي مُطْلَقًا مِثْلُ وَأَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِيَّةٌ مِمَّا يَلْزَمُ فِيهِ الثَّلَاثُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا كَغَيْرِهَا إنْ لَمْ يَنْوِ أَقَلَّ نَعَمْ قَدْ مَرَّ عَنْ الْأَصْلِ أَنَّ الْمَدَارَ فِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْعُرْفُ فَلَعَلَّ مَا تَقَدَّمَ مَبْنِيٌّ عَلَى عُرْفٍ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى عُرْفٍ آخَرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
٢ -
(الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ) فِي حَاشِيَةِ الْعَطَّارِ عَلَى مُحَلَّى جَمْعِ الْجَوَامِعِ قَالَ الْقَرَافِيُّ، قُلْت يَوْمًا لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ إنَّ الْقُرَّاءَ الْتَزَمُوا قَاعِدَةَ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ لِلْعُمُومِ فِي الْأُصُولِ وَخَالَفُوهَا فِي الْفُرُوعِ حَيْثُ قَالُوا لَوْ قَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَبَبُ الْمُخَالَفَةِ أَنَّ الْأَيْمَانَ تَتْبَعُ الْمَنْقُولَاتِ الْعُرْفِيَّةَ دُونَ الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ إذَا تَعَارَضَا، وَقَدْ انْتَقَلَ اللَّامُ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ لِحَقِيقَةِ