وَقَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي لَا يَنْفَعُهُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَبَبًا لِقَطْعِ الْعِصْمَةِ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ فَقَدْ زَالَتْ الْعِصْمَةُ بِتَحَقُّقِهِ كَرِهَ الْمُكَلَّفُ أَوْ أَحَبَّ فَمَشِيئَتُهُ لَغْوٌ وَإِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى فِعْلٍ وَأَعَادَ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي عَلَيْهِ خَاصَّةً وَمَعْنَاهُ أَنِّي لَمْ أُصَمِّمْ عَلَى جَعْلِ الْفِعْلِ سَبَبًا بَلْ الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى إرَادَةٍ تَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَذَلِكَ يَنْفَعُهُ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ مَوْكُولٌ إلَى إرَادَتِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَصْمِيمِهِ عَلَى مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ صَاحِبِ الْجَلَّابِ إنْ أَعَادَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى كَلَامِ زَيْدٍ نَفَعَهُ وَعَلَى الْحَجِّ لَمْ يَنْفَعْهُ مَعْنَاهُ أَنِّي لَمْ أَجْزِمْ بِجَعْلِ كَلَامِ زَيْدٍ سَبَبًا لِلُزُومِ الْحَجِّ بَلْ ذَلِكَ مَوْكُولٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ سَبَبًا فَلَا يَلْزَمُ الْحَجُّ بِكَلَامِهِ فَإِذَا أَعَادَهُ عَلَى الْحَجِّ فَقَدْ جَزَمَ بِسَبَبِيَّةِ كَلَامِ زَيْدٍ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُسَبَّبُهُ وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يَكُونُ رَافِعًا كَمَا تَقَدَّمَ فَهَذَا سِرُّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَهُوَ مِنْ نَفَائِسِ الْعِلْمِ فَافْهَمْهُ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ) فِي الْجَوَاهِرِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَهُوَ تَعْلِيقُ التَّعْلِيقِ فَإِنْ كَلَّمْت زَيْدًا أَوَّلًا تَعَلَّقَ طَلَاقُهَا بِالدُّخُولِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي الْمُهَذَّبِ: هَذَا يُسَمِّيهِ أَهْلُ النَّحْوِ اعْتِرَاضُ الشَّرْطِ عَلَى الشَّرْطِ فَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ ثُمَّ كَلَّمْت زَيْدًا طَلُقَتْ وَإِنْ كَلَّمْت زَيْدًا أَوَّلًا ثُمَّ دَخَلْت الدَّارَ لَمْ تَطْلُقْ لِأَنَّهُ جَعَلَ دُخُولَ الدَّارِ شَرْطًا فِي كَلَامِ زَيْدٍ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ وَإِنْ قَالَ: إنْ أَعْطَيْتُك إنْ وَعَدْتُك إنْ سَأَلَتْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يُوجَدَ السُّؤَالُ ثُمَّ الْوَعْدُ ثُمَّ الْعَطَاءُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْوَعْدِ بِالْعَطِيَّةِ وَشَرْطٌ فِي الْعَطِيَّةِ السُّؤَالُ وَكَانَ مَعْنَاهُ إنْ سَأَلَتْنِي فَوَعَدْتُك فَأَعْطَيْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَوَافَقَهُ الْغَزَالِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْوَسِيطِ وَلَمْ يَحْكِيَا خِلَافًا وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمَسْأَلَةَ فِي النِّهَايَةِ وَاخْتَارَ مَذْهَبَنَا وَأَنَّ التَّعْلِيقَ مَعَ عَدَمِ الْوَاوِ يَكُونُ كَالْعِطْفِ بِالْوَاوِ وَضَابِطُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الشُّرُوطَ إنْ وَقَعَتْ كَمَا نُطِقَ بِهَا لَمْ تَطْلُقْ وَإِنْ عَكَسَهَا الْمُتَقَدِّمُ مُتَأَخِّرٌ وَالْمُتَأَخِّرُ مُتَقَدِّمٌ طَلُقَتْ وَلَمْ أَرَ هَذَا لِأَصْحَابِنَا بَلْ مَا تَقَدَّمَ وَفِي الْمَسْأَلَةِ غَوْرٌ بَعِيدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ يَظْهَرُ مِنْهُمَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَنَذْكُرهُمَا وَنَذْكُرُ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مِنْ ذَلِكَ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِيَتَّضِحَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهِيَ مِنْ أَطَارِيفِ الْمَسَائِلِ: الْقَاعِدَةُ الْأُولَى مِنْ الشُّرُوطِ اللُّغَوِيَّةِ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
قَدْ سَبَقَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مَقْصَدٌ مُتَكَلَّفٌ لَمْ يَقْصِدْهُ عَبْدُ الْمَلِكِ وَلَا يُفِيدُ عَلَى تَقْدِيرِ قَصْدِهِ مَا ذَكَرَ بَلْ نَقِيضُهُ فَلَا يَصِيرُ الْمُدْرَكُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَتُعْقَلُ الْمَسْأَلَةُ وَتَصِيرُ لَهَا حَقِيقَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: (وَقَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي لَا يَنْفَعُهُ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ) قُلْتُ: مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ بَلْ ذَلِكَ مَوْكُولٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ سَبَبًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِكَلَامِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ إذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ إذَا كَانَ بِمَشِيئَتِهِ فَإِنَّهُ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ الْقَائِلِ فِي قَوْلِهِ إنْ كُنْت كَلَّمْت زَيْدًا فَعَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الْحَجِّ فَإِنْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ كَمَا سَبَقَ وَإِنْ قَالَ: إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ هُنَا حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى رَدِّ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى جَعْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ سَبَبًا
قَالَ: شِهَابُ الدِّينِ (الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ فِي الْجَوَاهِرِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت زَيْدًا إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَهُوَ تَعْلِيقُ التَّعْلِيقِ فَإِنْ كَلَّمْت زَيْدًا أَوَّلًا تَعَلَّقَ طَلَاقُهَا بِالدُّخُولِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ إلَى قَوْلِهِ مِنْ أَطَارِيفِ الْمَسَائِلِ)
قُلْتُ: مَا قَالَهُ نَقْلٌ أَوْ وَعْدٌ فَلَا كَلَامَ فِيهِ قَالَ: (الْقَاعِدَةُ الْأُولَى أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ الْآنَ فِي أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَةِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَشِيئَتَهُ فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ اطِّلَاعُنَا عَلَيْهَا يُضَاهِي قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ بِحُدُوثِ الْإِرَادَةِ وَأَنَّ بَعْضَ الْأُمُورِ عَلَى خِلَافِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُخَالِفُ قَاعِدَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ وَاجِبَةُ النُّفُوذِ فَكُلُّ عَدَمٍ مُمْكِنٌ يُعْلَمُ وُقُوعُهُ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَهُ وَكُلُّ وُجُودٍ مُمْكِنٍ يُعْلَمُ وُقُوعُهُ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ كَنُونِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى حَوَاشِي عبق عَنْ الْعَلَّامَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ مَعَ زِيَادَةٍ قُلْتُ: وَيَظْهَرُ لَنَا عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: الْأَمْرُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إلَى قَوْلِ الْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ فِي ضَوْءِ الشُّمُوعِ الصَّوَابُ إمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَعْلِيقٌ بِمُحَقَّقٍ إنْ قُصِدَ إنْ كَانَ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ يَعْنِي فِي الْمَاضِي فَإِنَّ بِنُطْقِهِ بِالطَّلَاقِ عُلِمَ أَنَّهُ شَاءَ وَقَاعِدَةُ أَنَّ الشَّرْطَ وَجَوَابَهُ لَا يَتَعَلَّقَانِ إلَّا بِمَعْدُومٍ مُسْتَقْبَلٍ وَطَلَاقٍ لَمْ يَقَعْ قَبْلَ التَّعْلِيقِ أَغْلَبِيَّةٌ لَا كُلِّيَّةٌ وَإِلَّا يَقْصِدْ ذَلِكَ بَلْ قَصَدَ إنْ شَاءَ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَوْ قُلْنَا: إنَّ الْحُكْمَ يَتَعَدَّدُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّنَا إنَّمَا نُفْتِي بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا وَحُصُولُ الْمَحْكُومِ بِهِ هُنَا لَيْسَ مِنْ مُجَرَّدِ الْحُكْمِ حَتَّى يَرِدَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَأْمُرُ وَلَا يُرِيدُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْحُكْمِ حُصُولُ الْمَحْكُومِ بِهِ بَلْ حُصُولُهُ هُنَا مِنْ حَيْثُ تَحَقُّقِ السَّبَبِ وَهُوَ نُطْقُهُ بِالصِّيغَةِ فَتَدَبَّرْ.
وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إنْ جَعْلَ مَالِكٌ ذَلِكَ مِثَالًا لِمَا لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ مَنْظُورًا فِيهِ لِلْمَشِيئَةِ فِي حَدِّ ذَاتِهَا فَلَا يُنَافِي أَنَّهَا تُعْلَمُ بِتَحَقُّقِ الْمُشِيءِ اهـ بِحَذْفٍ وَزِيَادَةٍ وَتَصَرُّفٍ. الْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ كَنُونِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ هُوَ الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ الشَّاطِّ مُرَادُ مَنْ قَالَ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ الْآنَ فِي أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى مَشِيئَةِ مَنْ لَا يُعْلَمُ مَشِيئَتُهُ هُوَ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَلْ أَرَادَ الطَّلَاقَ عَلَى التَّعْيِينِ أَوْ لَا وَلَيْسَ لَنَا طَرِيقٌ إلَى التَّوَصُّلِ إلَى ذَلِكَ اهـ.
قُلْتُ: وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ أَنَّ مُطْلَقَ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَإِنْ وَضَعَهُ الشَّارِعُ لِحَلِّ الْعِصْمَةِ إلَّا أَنَّ لَفْظَهُ الْمُعَيَّنَ الْوَاقِعَ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ مَعْنَاهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ جَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ