للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ.

(الرَّابِعُ) جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ وَشَرِيكٍ إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِهِلَالٍ يَعْنِيَ الزَّوْجَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ يَعْنِي الْمَقْذُوفَ فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ كُنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتهَا» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي فِي الْحُدُودِ بِعِلْمِهِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا، وَقَدْ وَقَعَ مَا قَالَ فَيَكُونُ الْعِلْمُ حَاصِلًا لَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ مَا رَجَمَ، وَعَلَّلَ بِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ.

(الْخَامِسُ) قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: ٤] فَأَمَرَ بِجَلْدِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ عَلِمَ صِدْقَهُمْ.

(السَّادِسُ) أَنَّ الْحَاكِمَ غَيْرُ مَعْصُومٍ فَيُتَّهَمُ بِالْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ فَلَعَلَّ الْمَحْكُومَ لَهُ وَلِيٌّ أَوْ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ صَدِيقٌ، وَلَا نَعْلَمُ نَحْنُ ذَلِكَ فَحَسَمْنَا الْمَادَّةَ صَوْنًا لِمَنْصِبِ الْقَضَاءِ عَنْ التُّهَمِ.

(السَّابِعُ) قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَتَلَ أَخَاهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ قَاتِلٌ أَنَّهُ كَالْقَتْلِ عَمْدًا لَا يَرِثُ مِنْهُ شَيْئًا لِلتُّهْمَةِ فِي الْمِيرَاثِ فَنَقِيسُ عَلَيْهِ بَقِيَّةَ الصُّوَرِ بِجَامِعِ التُّهْمَةِ، احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ

(أَحَدُهَا) مَا فِي مُسْلِمٍ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى عَلَى أَبِي سُفْيَانَ بِالنَّفَقَةِ بِعِلْمِهِ فَقَالَ لِهِنْدَ خُذِي لَك، وَلِوَلَدِك مَا يَكْفِيك بِالْمَعْرُوفِ» ، وَلَمْ يُكَلِّفْهَا الْبَيِّنَةَ

(وَثَانِيهَا) مَا رَوَاهُ صَاحِبُ الِاسْتِذْكَارِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ادَّعَى عَلَى أَبِي سُفْيَانَ عِنْدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ ظَلَمَهُ حَدًّا فِي مَوْضِعٍ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنِّي لَأَعْلَمُ النَّاسِ بِذَلِكَ فَقَالَ عُمَرُ انْهَضْ إلَى الْمَوْضِعِ فَنَظَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الْمَوْضِعِ فَقَالَ يَا أَبَا سُفْيَانَ خُذْ هَذَا الْحَجَرَ مِنْ هَا هُنَا فَضَعْهُ هَا هُنَا فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ فَقَالَ لَا أَفْعَلُ فَعَلَاهُ عُمَرُ بِالدِّرَةِ، وَقَالَ خُذْهُ لَا أُمَّ لَك وَضَعْهُ هُنَا فَإِنَّك مَا عَلِمْت قَدِيمَ الظُّلْمِ فَأَخَذَهُ فَوَضَعَهُ حَيْثُ قَالَ فَاسْتَقْبَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْقِبْلَةَ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ إذْ لَمْ تُمِتْنِي حَتَّى غَلَبْتُ أَبَا سُفْيَانَ عَلَى رَأْيِهِ، وَأَذْلَلْتَهُ لِي بِالْإِسْلَامِ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ إذْ لَمْ تُمِتْنِي حَتَّى جَعَلْت فِي قَلْبِي مَا ذَلَلْتُ لِعُمَرَ

(وَثَالِثُهَا) قَوْله تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: ١٣٥] وَقَدْ عَلِمَ الْقِسْطُ فَيُقَوِّمُ بِهِ

(وَرَابِعُهَا) أَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِالظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ قَوْلِ الْبَيِّنَةِ فَالْعِلْمُ أَوْلَى، وَمِنْ الْعَجَبِ جَعْلُ الظَّنِّ خَيْرًا مِنْ الْعِلْمِ.

(وَخَامِسُهَا) أَنَّ التُّهْمَةَ قَدْ تَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْبَيِّنَةِ فَيَقْبَلُ قَوْلَ مَنْ لَا يُقْبَلُ

(سَادِسُهَا) أَنَّ الْعَمَلَ وَاجِبٌ بِمَا نَقَلَتْهُ الرُّوَاةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

- رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنْ وَعَدْت غَرِيمَك بِتَأْخِيرِ الدَّيْنِ لَزِمَك لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لَازِمٌ لِلْحَقِّ سَوَاءٌ قُلْت لَهُ أُؤَخِّرُك أَوْ أَخَّرْتُك، وَإِذَا أَسْلَفْته فَعَلَيْك تَأْخِيرُهُ مُدَّةً تَصْلُحُ لِذَلِكَ اهـ.

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَقُولُونَ جَاهَدْنَا وَمَا جَاهَدُوا، وَفَعَلْنَا أَنْوَاعًا مِنْ الْخَيْرَاتِ، وَمَا فَعَلُوهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ لِأَنَّهُ كَذِبٌ، وَتَسْمِيعٌ بِطَاعَةٍ، وَكِلَاهُمَا مُحَرَّمٌ وَمَعْصِيَةٌ اتِّفَاقًا، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْإِخْلَافِ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ سَجِيَّةٌ لَهُ، وَمُقْتَضَى حَالِهِ الْإِخْلَافُ، وَمِثْلُ هَذِهِ السَّجِيَّةِ يَحْسُنُ الذَّمُّ بِهَا كَمَا يُقَالُ سَجِيَّةٌ تَقْتَضِي الْبُخْلَ وَالْمَنْعَ فَمَنْ كَانَ صِفَتُهُ تَحُثُّ عَلَى الْخَيْرِ مُدِحَ أَوْ تَحُثُّ عَلَى الشَّرِّ ذُمَّ شَرْعًا وَعُرْفًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ وَبَيْنَ وَعْدِ غَيْرِهِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخْبِرُ عَنْ مَعْلُومٍ، وَكُلُّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْعِلْمُ تَجِبُ مُطَابَقَتُهُ بِخِلَافِ وَاحِدٍ مِنْ الْبَشَرِ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَنْ لَا يَقَعَ فَلَا تَكُونُ الْمُطَابَقَةُ وَعَدَمُهَا مَعْلُومَيْنِ، وَلَا وَاقِعَيْنِ فَانْتَفَيَا بِالْكُلِّيَّةِ وَقْتَ الْإِخْبَارِ.

وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الْأَصْلُ فَقَالَ هَذَا هُوَ الَّذِي ظَهَرَ لِي لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الطُّرُقِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ الْمُتَعَارِضَةِ (وَالْقَوْلُ الثَّانِي) تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ بِظَاهِرِ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَتَأْوِيلُ ظَاهِرِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ قَالَ يُفَسَّرُ الْكَذِبُ بِالْخَبَرِ الَّذِي لَا يُطَاقُ الْوَاقِعُ، وَكُلٌّ مِنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي وَالْحَالِ يَدْخُلُهُ وَصْفُ الْمُطَابَقَةِ وَعَدَمُهَا، وَلَيْسَ الْوُقُوعُ بِالْفِعْلِ شَرْطًا فَيَدْخُلُ الْكَذِبُ فِي الْكُلِّ، وَيَلْزَمُ دُخُولُ الْكَذِبِ فِي الْوَعْدِ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا سُومِحَ فِي الْوَعْدِ تَكْثِيرًا لِلْعِدَةِ بِالْمَعْرُوفِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَذِبِ، وَالْوَعْدِ قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الشَّاطِّ مَا خُلَاصَتُهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُوهٍ: (الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُدُودَ تَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ الْأَوْصَافُ فِيهَا بِالْفِعْلِ إذْ لَوْ اسْتَلْزَمَتْ ذَلِكَ لَخَرَجَ الطِّفْلُ الرَّضِيعُ عَنْ الْإِنْسَانِ ضَرُورَةَ أَنَّ النُّطْقَ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ مَفْقُودٌ فِيهِ بِالْفِعْلِ مَعَ أَنَّهُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْحُدُودِ، وَهُمْ الْفَلَاسِفَةُ إنْسَانٌ، وَدَعْوَى أَنَّهُ إذَا لَمْ تَسْتَلْزِمْ ذَلِكَ كَانَ الْجَمَادُ وَالنَّبَاتُ كُلُّهُ إنْسَانًا لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْحَيَاةِ وَالنُّطْقِ جَهْلٌ بِمَذْهَبِ أَرْبَابِ الْحُدُودِ، وَهُمْ الْفَلَاسِفَةُ فِي الْحَقَائِقِ، وَأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِصِفَاتِهَا الذَّاتِيَّةِ فَلَا تَقْبَلُ حَقِيقَةٌ مِنْهَا صِفَةَ الْأُخْرَى فَالْحَيَوَانُ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ جَمَادًا، وَالْجَمَادُ لَا يَقْبَلُ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي الْحُدُودِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ الْأَوْصَافُ فِيهَا بِالْفِعْلِ بَطَلَ كُلُّ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ الْوَعْدَ لَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ، وَصَحَّ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ يَدْخُلُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَابِلٌ لِذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يَصِحُّ سِوَاهُ.

(الْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِحَدِيثِ الْمُوَطَّإِ عِنْدِي إلَّا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَ السَّائِلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>