يَقْضِيَ بِهِمَا فِي الْأَمْوَالِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَبِالْجُمْلَةِ فَاشْتِرَاطُ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدَيْنِ ضَعِيفٌ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ» ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: ٢٨٢] ، وَظَاهِرُ هَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّهُمَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ، وَمَا عَلِمْت أَنَّهُ وَرَدَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي اشْتِرَاطِ الْيَمِينِ وَإِثْبَاتُ الْمَشْرُوطِ بِمُجَرَّدِ الْمُنَاسَبَاتِ وَالِاحْتِمَالَاتِ صَعْبٌ فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ لَا نَقْبَلُ فِي الدِّمَاءِ مَنْ فِي طَبْعِهِ خَوَرٌ أَوْ خَوْفٌ مِنْ الْقَتْلِ مَعَ تَبْرِيزِهِ فِي الْعَدَالَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَبْعَثُهُ عَلَى حَسْمِ مَادَّةِ الْقَتْلِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الدِّمَاءِ وَأَحْكَامِ الْأَبْدَانِ الشُّبَّانُ مِنْ الْعُدُولِ بَلْ الشُّيُوخُ لِعِظَمِ الْخَطَرِ فِي أَحْكَامِ الْأَبْدَانِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسَبَّبَاتِ وَالْمُنَاسَبَاتِ كَانَ هَذَا مُرُوقًا مِنْ الْقَوَاعِدِ، وَمُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ لَا سِيَّمَا، وَالْقِيَاسُ عَلَى الدَّيْنِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْفَرْقُ فِي غَايَةِ الْعُسْرِ، وَإِثْبَاتُ شَرْطٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ ثَبَتَ الْفَرْقُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِ عَدَمُ هَذَا الشَّرْطِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
(الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ) الْأَرْبَعَةُ فِي الزِّنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: ٤]
(تَنْبِيهٌ) فِي نَظَائِرِ أَبِي عِمْرَانَ يُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُ الشُّهُودِ عِنْدَ الْأَدَاءِ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي غَيْرِهِمَا، وَصَعْبٌ عَلَى دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُنَاسَبَاتِ بِمُجَرَّدِهَا لَا تَكْفِي فِي اشْتِرَاطِ الشُّرُوطِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قِيَاسٍ صَحِيحٍ أَوْ نَصٍّ صَرِيحٍ، وَأَمَّا قَوْلُنَا ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي طَلَبِ السَّتْرِ عَلَى الزُّنَاةِ وَحِفْظِ الْأَعْضَاءِ عَنْ الضَّيَاعِ فَهَذَا لَا يَكْفِي فِي هَذَا الشَّرْطِ فَيُمْكِنُ أَيْضًا عَلَى هَذَا السِّيَاقِ أَنْ نَشْتَرِطَ التَّبْرِيزَ فِي الْعَدَالَةِ لَوْ يَكُونُ الشَّاهِدُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْوِلَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ الْمُنَاسَبَاتِ، وَهِيَ عَلَى خِلَافِ الِاجْتِمَاعِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا اتِّبَاعُ مَوَارِدِ النُّصُوصِ وَالْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ صَعْبٌ جِدًّا.
(الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ) الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ قَالَ بِهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَبَالَغَ فِي نَقْضِ الْحُكْمِ أَنْ حَكَمَ بِهِ قَائِلًا هُوَ بِدْعَةٌ، وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ قَالَ بِهِ، وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ، وَغَيْرُهُمْ لَنَا وُجُوهٌ
(الْأَوَّلُ) مَا فِي الْمُوَطَّإِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» ، وَرُوِيَ فِي الْمَسَانِيدِ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ رِوَايَةً عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ
(الثَّانِي) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ غَيْرِ مُخَالِفٍ رَوَى ذَلِكَ النَّسَائِيّ، وَغَيْرُهُ
(الثَّالِثُ) وَلِأَنَّ الْيَمِينَ تُشْرَعُ فِي حَقِّ مَنْ ظَهَرَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
يَحْكُمُ بِهِ فَلَوْ جَحَدَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَقَرَّ فِي مَوْضِعٍ يَقْبَلُ مَا رَجَعَ إلَيْهِ مِنْ حُجَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا بَعْدَ الْجُحُودِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَسَحْنُونٍ قَالَ اللَّخْمِيُّ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ، وَلَا أَرَى أَنْ يُبَاحَ هَذَا الْيَوْمَ لِأَحَدٍ مِنْ الْقُضَاةِ، وَاخْتُلِفَ إذَا حَكَمَ فَقَالَ مُحَمَّدٌ أَرَى أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَهُ هُوَ نَفْسُهُ مَا كَانَ قَاضِيًا لَمْ يُعْزَلْ فَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْقُضَاةِ فَلَا أُحِبُّ لَهُ نَقْضَهُ قَالَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ يَنْقُضُهُ هُوَ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ رَأْيِهِ، وَقِيلَ لَا يَنْقُضُهُ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ رَأْيٍ إلَى رَأْيٍ فَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ الْأَوَّلُ شَيْئًا، وَيَنْظُرُ إلَى مَنْ يُقَلِّدُهُ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْحُكْمَ بِمِثْلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَنْقُضْهُ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يُؤَدِّي مَعَ فَسَادِ حَالِ الْقُضَاةِ الْيَوْمَ إلَى الْقَضَاءِ بِالْبَاطِلِ لِأَنَّ كُلَّهُمْ حِينَئِذٍ يَدَّعِي الْعَدَالَةَ فَيَنْقُضُهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الذَّرِيعَةِ فَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ اهـ.
قَالَ الْأَصْلُ فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ يُنْقَضُ، وَإِنْ كَانَ مُدْرَكًا مُخْتَلَفًا فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمُدْرَكُ فِي النَّقْضِ كَوْنَهُ مُدْرَكًا مُخْتَلَفًا فِيهِ فَاَلَّذِي يَنْقُضُ بِهِ لَا يَعْتَقِدُهُ فَالْحُكْمُ وَقَعَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ مُدْرَكٍ، وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ مُدْرَكٍ يُنْقَضُ فَنَقَضَهُ لِذَلِكَ فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا نَقْضُ الْحُكْمِ إذَا وَقَعَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ.
وَقَدْ نَصَّ عَلَى نَقْضِهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَالَ هُوَ بِدْعَةٌ أَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَضَاءِ بِهِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يُجِيزُ الْحُكْمَ إلَّا بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَالْحُكْمُ الْوَاقِعُ بِشَهَادَةِ الصِّبْيَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِ فَإِنَّهَا مُدْرَكٌ ضَعِيفٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَيَتَطَرَّقُ النَّقْضُ لِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ بِغَيْرِ مُدْرَكٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَنَدُ فِي نَقْضِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ لَيْسَ كَوْنَهُ مُدْرَكًا مُخْتَلَفًا فِيهِ، وَأَنَّا لَا نَعْتَقِدُهُ مُدْرَكًا بَلْ مُسْتَنَدًا لِنَفْيِ التُّهْمَةِ كَمَا يَنْقُضُهُ إذَا حَكَمَ لِنَفْسِهِ فَلَا يُشَارِكُهُ فِي النَّقْضِ جَمِيعُ غَيْرِهِ مِنْ الْمَدَارِكِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَعَ أَنِّي قَدْ تُرَجَّحُ عِنْدِي فِيمَا وَضَعْته فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْمُدْرَكِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ فِيهِ، وَيُعَيِّنُهُ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ الْمُدْرَكِ مَوْطِنُ اجْتِهَادٍ فَيَتَعَيَّنُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِالْحُكْمِ فِيهِ كَمَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا الْمُخْتَلَفِ فِيهَا اهـ.
كَلَامُ الْأَصْلِ بِلَفْظِهِ وَسَلَّمَهُ، وَسَائِرَ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ، وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُ التَّسَوُّلِيِّ عَلَى الْعَاصِمِيَّةِ إنْ حَكَمَ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ تَتَقَارَبُ فِيهَا الْمَدَارِكُ لِأَجْلِ مَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ فَحُكْمُهُ إنْشَاءُ رَفْعٍ لِلْخِلَافِ فَإِذَا قَضَى الْمَالِكِيُّ مَثَلًا بِلُزُومِ الطَّلَاقِ فِي الَّتِي عُلِّقَ طَلَاقُهَا عَلَى نِكَاحِهَا فَقَضَاؤُهُ إنْشَاءُ نَصٍّ خَاصٍّ وَارِدٍ مِنْ قِبَلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ الْمُعَيَّنَةِ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُفْتِيَ فِيهَا