للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْآثَارِ أَوَّلُ شَيْءٍ أَحْدَثَهُ النَّاسُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتِّخَاذُ الْمَنَاخِلِ لِلدَّقِيقِ؛ لِأَنَّ تَلْيِينَ الْعَيْشِ وَإِصْلَاحَهُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ فَوَسَائِلُهُ مُبَاحَةُ فَالْبِدْعَةُ إذَا عَرَضَتْ تُعْرَضُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَأَدِلَّتِهَا فَأَيُّ شَيْءٍ تَنَاوَلَهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْقَوَاعِدِ أُلْحِقَتْ بِهِ مِنْ إيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَإِنْ نَظَرَ إلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهَا بِدْعَةً مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَتَقَاضَاهَا كُرِهَتْ فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الِاتِّبَاعِ، وَالشَّرَّ كُلَّهُ فِي الِابْتِدَاعِ وَلِبَعْضِ السَّلَفِ الصَّالِحِ يُسَمَّى أَبَا الْعَبَّاسِ الْأَبْيَانِيَّ مِنْ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ ثَلَاثٌ لَوْ كُتِبْنَ فِي ظُفْرٍ لَوَسِعَهُنَّ، وَفِيهِنَّ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اتَّبِعْ، وَلَا تَبْتَدِعْ اتَّضِعْ، وَلَا تَرْتَفِعْ مَنْ تَوَرَّعَ لَا يَتَّسِعُ

(الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَاعِدَةِ الْغِيبَةِ الَّتِي لَا تَحْرُمُ) قَالَ تَعَالَى {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: ١٢] وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْغِيبَةُ أَنْ تَذْكُرَ فِي الْمَرْءِ مَا يَكْرَهُ إنْ سَمِعَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا قَالَ إنْ قُلْت: بَاطِلًا فَذَلِكَ الْبُهْتَانُ» فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ مَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ إذَا سَمِعَهُ وَأَنَّهُ لَا يُسَمَّى غِيبَةً إلَّا إذَا كَانَ غَائِبًا لِقَوْلِهِ إنْ سَمِعَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَاضِرٍ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ مَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ

(تَنْبِيهٌ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ اُسْتُثْنِيَ مِنْ الْغِيبَةِ سِتُّ صُوَرٍ (الْأُولَى) النَّصِيحَةُ «لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ حِينَ شَاوَرَتْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبُو جَهْمٍ أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ صُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ» فَذَكَرَ عَيْبَيْنِ فِيهِمَا مَا يَكْرَهَانِهِ لَوْ سَمِعَاهُ وَأُبِيحَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ النَّصِيحَةِ وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَنْ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

فَضَرَبَهُ أَرْبَعَمِائَةٍ فَانْتَفَخَ، وَمَاتَ، وَلَمْ يَسْتَعْظِمْ مَالِكٌ ذَلِكَ. اهـ الْمُرَادُ، قَالَ الْأَصْلُ لَنَا وَجْهَانِ.

(الْأَوَّلُ) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ زَوَّرَ كِتَابًا عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَنَقَشَ خَاتَمًا مِثْلَ نَقْشِ خَاتَمِهِ فَجَلَدَهُ مِائَةً فَشَفَعَ فِيهِ قَوْمٌ فَقَالَ أَذْكَرْتُمُونِي الطَّعْنَ وَكُنْت نَاسِيًا فَجَلَدَهُ مِائَةً أُخْرَى ثُمَّ جَلَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِائَةً أُخْرَى، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا وَفِي التَّبْصِرَةِ قَالَ الْمَازِرِيُّ وَضَرَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَبِيغًا أَكْثَرَ مِنْ الْحَدِّ أَيْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَإِلَّا لَوَرَدَ. (الثَّانِي) أَنَّ الْأَصْلَ مُسَاوَاةُ الْعُقُوبَاتِ لِلْجِنَايَاتِ، قَالَ الْأَصْلُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجَاوِزُ بِهِ أَيْ بِالتَّعْزِيرِ أَقَلَّ الْحُدُودِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ حَدُّ الْعَبْدِ بَلْ يَنْقُصُ مِنْهُ سَوْطٌ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ وَفِي التَّبْصِرَةِ وَبِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَيْضًا لَا يَبْلُغُ عِشْرِينَ وَفِيهَا أَيْضًا، وَلَمْ يَزِدْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْعَشَرَةِ قَالَ الْأَصْلُ وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَجْلِدُوا فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ فِي غَيْرِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» .

وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ، وَأَغْفَلَهُ الشِّهَابُ وَهُوَ أَصَحُّهَا، وَأَقْوَاهَا: إنَّ لَفْظَ الْحُدُودِ فِي لَفْظِ الشَّرْعِ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى الزِّنَا وَشِبْهِهِ بَلْ لَفْظُ الْحُدُودِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ، وَمَنْهِيٍّ عَنْهُ فَالتَّعْلِيقُ عَلَى هَذَا مِنْ جُمْلَةِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ حُدُودِ اللَّهِ فِي الْحَدِيثِ جَلْدُ غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْبَهَائِمِ فَافْهَمْ. اهـ. وَعِبَارَةُ الْمُعَلِّمِ كَمَا فِي التَّبْصِرَةِ وَتَأَوَّلَ أَصْحَابُنَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي غَيْرِ حَدٍّ إلَخْ أَيْ فِي غَيْرِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُقَدَّرِ حُدُودُهَا؛ لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ، وَمِنْهَا أَنَّ الْحَدِيثَ مَقْصُورٌ عَلَى زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَكْفِي الْجَانِيَ مِنْهُ هَذَا الْقَدْرُ كَمَا فِي الْمُعَلِّمِ قَالَ الْأَصْلُ أَيْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى طِبَاعِ السَّلَفِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَمَا قَالَ الْحَسَنُ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ أُمُورًا هِيَ فِي أَعْيُنِكُمْ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرِ، وَإِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا مِنْ الْمُوبِقَاتِ فَكَانَ يَكْفِيهِمْ قَلِيلُ التَّعْزِيرِ ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الْمَعَاصِي حَتَّى زَوَّرُوا خَاتَمَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ عَلَى قَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ، وَلَمْ يُرِدْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَسْخَ حُكْمٍ بَلْ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ يَنْتَقِلُ لَهُ الِاجْتِهَادُ لِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ.

(وَمِنْهَا) أَنَّهُ لَا يُوَافِقُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ إلَّا مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمَّا الْأَحْنَافُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى الْعَشْرِ فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ خِلَافُ مَذْهَبِهِمْ. (وَالْوَجْهُ الثَّانِي) مِنْ الْفُرُوقِ أَنَّ الْحُدُودَ وَاجِبَةُ النُّفُوذِ وَالْإِقَامَةِ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَاخْتَلَفُوا فِي التَّعْزِيرِ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ كَالْحُدُودِ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْإِمَامِ أَنَّ غَيْرَ الضَّرْبِ مِنْ الْمَلَامَةِ وَالْكَلَامِ مَصْلَحَةٌ أَيْ وَإِنْ كَانَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ لَمْ يَجِبْ وَفِي تَبْصِرَةِ ابْنِ فَرْحُونٍ فَإِنْ تَجَرَّدَ التَّعْزِيرُ عَنْ حَقِّ آدَمِيٍّ وَانْفَرَدَ بِهِ حَقُّ السَّلْطَنَةِ كَانَ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ مُرَاعَاةُ حُكْمِ الْأَصْلَحِ فِي الْعَفْوِ وَالتَّعْزِيرِ وَلَهُ التَّشْفِيعُ فِيهِ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «اشْفَعُوا إلَيَّ وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا يَشَاءُ» قَالَ فَلَوْ تَعَافَى الْخَصْمَانِ عَنْ الذَّنْبِ قَبْلَ التَّرَافُعِ إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ سَقَطَ حَقُّ الْآدَمِيِّ وَفِي حَقِّ السَّلْطَنَةِ وَالتَّقْوِيمِ وَالْأَدَبِ وَجْهَانِ أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ السُّقُوطِ فَلَهُ مُرَاعَاةُ الْأَصْلَحِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ التَّعْزِيرُ بِإِسْقَاطِ مَا وَجَبَ بِسَبَبِهِ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى الْعَفْوِ وَالْإِسْقَاطِ.

وَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ ضِمْنًا كَمَا إذَا عَفَا مُسْتَحِقُّ الْحَدِّ عَنْ الْحَدِّ قَبْلَ بُلُوغِ الْإِمَامِ إذْ لَيْسَ لِلْإِمَامِ التَّعْزِيرُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِانْدِرَاجِهِ فِي الْحَدِّ السَّاقِطِ وَقِيلَ لَا يَسْقُطُ إذْ وُجُوبُ التَّعْزِيرِ الْمُقْتَرِنِ بِالْحَدِّ لِمُجَرَّدِ حَقِّ السَّلْطَنَةِ فَلَا يَنْبَغِي سُقُوطُهُ بِإِسْقَاطِ الْحَدِّ مِنْ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ قَالَ فَلَوْ كَانَ الْخَصْمَانِ الْمُتَرَافِعَانِ وَالِدًا وَوَلَدًا فَلَا حَقَّ لِلْوَلَدِ فِي تَعْزِيرِ وَالِدِهِ نَعَمْ يَخْتَصُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>