مِنْ الْأَسْبَابِ إنْ كَانَ هَذَانِ لَا يُنَافِيَانِ التَّوَكُّلَ فَغَيْرُهُمَا كَذَلِكَ نَعَمْ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا هُوَ مُطَّرِدٌ فِي مَجْرَى عَوَائِدِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْغِذَاءِ وَالتَّنَفُّسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَكْثَرِيٌّ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لَكِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَجْرَى فِيهِ عَادَةً مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ كَالْأَدْوِيَةِ وَأَنْوَاعِ الْأَسْفَارِ لِلْأَرْبَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْأَدَبُ فِي الْجَمِيعِ الْتِمَاسُ فَضْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي عَوَائِدِهِ وَلِذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِالدَّوَاءِ وَالْحِمْيَةِ وَاسْتِعْمَالِ الْأَدْوِيَةِ حَتَّى الْكَيِّ بِالنَّارِ «فَأَمَرَ بِكَيِّ سَعْدٍ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ، وَالْحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ، وَصَلَاحُ كُلِّ جِسْمٍ مَا اعْتَادَ» وَإِذَا كَانَ حَالُهُ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي لَيْسَتْ مُطَّرِدَةً مِنْ الْحِمْيَةِ وَإِصْلَاحِ الْبَدَنِ بِمُوَاظَبَةِ عَادَتِهِ فَمَا ظَنُّك بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَائِدِ، فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْأَبْلَجُ، وَالطَّرِيقُ الْأَنْهَجُ
(الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْحَسَدِ وَقَاعِدِ الْغِبْطَةِ) اشْتَرَكَتْ الْقَاعِدَتَانِ فِي أَنَّهُمَا طَلَبٌ مِنْ الْقَلْبِ غَيْرَ أَنَّ الْحَسَدَ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ الْغَيْرِ، وَالْغِبْطَةُ تَمَنِّي حُصُولِ مِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِطَلَبِ زَوَالِهَا عَنْ صَاحِبِهَا ثُمَّ الْحَسَدُ حَسَدَانِ تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ وَحُصُولِهَا لِلْحَاسِدِ وَتَمَنِّي زَوَالِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبَ حُصُولَهَا لِلْحَاسِدِ، وَهُوَ شَرُّ الْحَاسِدِينَ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ الْمَفْسَدَةَ الصِّرْفَةَ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ عَادِيٍّ أَوْ طَبِيعِيٍّ ثُمَّ حُكْمُ الْحَسَدِ فِي الشَّرِيعَةِ التَّحْرِيمُ، وَحُكْمُ الْغِبْطَةِ الْإِبَاحَةُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِمَفْسَدَةٍ أَلْبَتَّةَ، وَدَلِيلُ تَحْرِيمِ الْحَسَدِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
مُحَرَّمٌ فِي الدِّينِ فَقَطْ.
وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ يُتَّخَذُ دَيْدَنًا حَتَّى يَصِيرَ الِابْنُ مُسْتَحِقًّا لِرُتْبَةِ الْأَبِ.
وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الْأَبِ فِي ذَلِكَ الْمَنْصِبِ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَشِيعُ هَذَا الْعَمَلُ وَيَطَّرِدُ وَيَرِدُهُ النَّاسُ كَالشَّرْعِ الَّذِي لَا يُخَالَفُ بِأَنْ يُعَبِّرُوا عَنْهُ كَمَا يُعَبَّرُ عَنْ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ مَنْ مَاتَ عَنْ شَيْءٍ فَنَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ فَفِيهِ جِهَتَانِ جِهَةُ كَوْنِهِ بِدْعَةً بِلَا إشْكَالٍ، وَجِهَةُ كَوْنِهِ قَوْلًا بِالرَّأْيِ غَيْرِ الْجَارِي عَلَى الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَإِنَّمَا ضَلُّوا وَأَضَلُّوا؛ لِأَنَّهُمْ أَفْتَوْا بِالرَّأْيِ؛ إذْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ، وَهُوَ بِدْعَةٌ أَوْ سَبَبُ الْبِدْعَةِ، وَمَا أَتَى بِهِ الْقَرَافِيُّ مَثَلًا لِلْبِدْعَةِ الْمَنْدُوبَةِ مِنْ إقَامَةِ صُوَرِ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ فَإِنَّ الْبِدْعَةَ لَا تُتَصَوَّرُ فِيهِ إلَّا بِمَا فِيهِ بُعْدٌ جِدًّا مِنْ تَكَلُّفِ فَرْضِ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ أَنَّهُ مِمَّا يُطْلَبُ بِهِ الْأَئِمَّةُ عَلَى الْخُصُوصِ تَشْرِيعًا خَارِجًا عَنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بِحَيْثُ يُعَدُّ مِنْ الدِّينِ الَّذِي يَدِينُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمَطْلُوبُونَ بِهِ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ خَاصًّا بِالْأَئِمَّةِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ أَنَّ خَاتَمَ الذَّهَبِ جَائِزٌ لِذَوِي السُّلْطَانِ، أَوْ يَقُولُ: إنَّ الْحَرِيرَ جَائِزٌ لَهُمْ لُبْسُهُ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ الْأَوَّلِ فِي تَصَوُّرِ الْبِدْعَةِ فِي حَقِّ هَذَا الْقِسْمِ وَيُشْبِهُهُ عَلَى قُرْبٍ زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ؛ إذْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ تَرْفِيعِ بُيُوتِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ الثُّرَيَّاتِ الْخَطِيرَةِ الْأَثْمَانِ حَتَّى يَعُدَّ الْإِنْفَاقَ فِي ذَلِكَ إنْفَاقًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ إذَا اعْتَقَدَ فِي زَخَارِفِ الْمُلُوكِ.
وَإِقَامَةِ صُوَرِهِمْ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ تَرْفِيعِ الْإِسْلَامِ وَإِظْهَارِ مَعَالِمِهِ وَشَعَائِرِهِ أَوْ قَصَدَ ذَلِكَ فِي فِعْلِهِ أَوْ لَا أَنَّهُ تَرْفِيعٌ لِلْإِسْلَامِ لِمَا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهِ.
وَمَا حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ هَذِهِ الزَّخَارِفِ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْتَادِ فِي اللِّبَاسِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي الْحِجَابِ مَخَافَةً مِنْ انْخِرَاقِ خَرْقٍ يَتَّسِعُ فَلَا يُرَقَّعُ هَذَا إنْ صَحَّ مَا قَالَ، وَإِلَّا فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى نَقْلِ الْمُؤَرِّخِينَ وَمَنْ لَا يُعْتَبَرُ مِنْ الْمُؤَلَّفِينَ وَأَحْرَى فِي أَنْ يَنْبَنِيَ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَمَا أَتَى بِهِ الْقَرَافِيُّ مِثَالًا لِلْبِدْعَةِ الْمُبَاحَةِ مِنْ اتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ لِلدَّقِيقِ فَالْمُعْتَادُ فِيهِ أَنْ لَا يُلْحِقَهُ أَحَدٌ بِالدِّينِ، وَلَا بِتَدْبِيرِ الدُّنْيَا بِحَيْثُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ كَالتَّشْرِيعِ فَلَا نُطَوِّلُ بِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ يُنْظَرُ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ فَتَبَيَّنَ مَجَالُ الْبِدْعَةِ فِي الْعَادِيَّاتِ مِنْ مَجَالِ غَيْرِهَا وَقَدْ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ - تَعَالَى - فِي تَعْرِيفِ الْبِدْعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ظَاهِرُ الْمَعْنَى عَلَى طَرِيقَةِ الْأَكْثَرِينَ فِي الْعَادِيَّاتِ وَأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْقَرَافِيِّ وَشَيْخِهِ وَبَعْضِ السَّلَفِ فِيهَا فَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ إنَّمَا جَاءَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي عَاجِلَتِهِمْ وَآجِلَتِهِمْ لِتَأْتِيَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا فَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْمُبْتَدِعُ بِبِدْعَتِهِ؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ إمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْعَادَاتِ أَوْ الْعِبَادَاتِ فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعِبَادَاتِ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا أَنْ يَأْتِيَ تَعَبُّدُهُ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ فِي زَعْمِهِ لِيَفُوزَ بِأَتَمِّ الْمَرَاتِبِ فِي الْآخِرَةِ فِي ظَنِّهِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعَادَاتِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَضَعَهَا لِتَأْتِيَ أُمُورُ دُنْيَاهُ عَلَى تَمَامِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا فَمَنْ يَجْعَلْ الْمَنَاخِلَ فِي قِسْمِ الْبِدَعِ فَظَاهِرٌ أَنَّ التَّمَتُّعَ عِنْدَهُ بِلَذَّةِ الدَّقِيقِ الْمَنْخُولِ أَتَمُّ مِنْهُ بِغَيْرِ الْمَنْخُولِ.
وَكَذَلِكَ الْبِنَاءَاتُ الْمُشَيَّدَةُ التَّمَتُّعُ بِهَا أَبْلَغُ مِنْهُ بِالْحُشُوشِ وَالْخِرَبِ وَمِثْلُهُ الْمُصَادَرَاتُ فِي الْأَمْوَالِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أُولِي الْأَمْرِ.
وَقَدْ أَبَاحَتْ الشَّرِيعَةُ التَّوَسُّعَ فِي التَّصَرُّفَاتِ فَيُعَدُّ الْمُبْتَدِعُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ (الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ) : أَنَّ الْبِدَعَ عَلَى أَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ قَبِيحَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا هَلْ لَهَا حُكْمٌ وَاحِدٌ أَمْ مُتَعَدِّدٌ طَرِيقَتَانِ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى الْأُولَى، وَأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا كَبَائِرَ وَأَيَّدَهَا بِأَنَّ الصَّغِيرَةَ فَضْلًا عَنْ الْكَرَاهَةِ وَإِنْ ظَهَرَتْ فِي الْمَعَاصِي