(الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْمُحَرَّمِ وَقَاعِدَةِ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - الَّذِي لَا يَحْرُمُ) وَرَدَ قَوْله تَعَالَى {وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} [التوبة: ١٨] وقَوْله تَعَالَى {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: ١٥٠] وقَوْله تَعَالَى {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: ٣٧] وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الْمَانِعَةِ مِنْ خَوْفِ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُوَ الْمُسْتَفِيضُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْجُمْهُورِ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ مَحْمُولَةٌ عَلَى خَوْفِ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْمَانِعِ مِنْ فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ أَوْ خَوْفٍ مِمَّا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْخَوْفِ كَمَنْ يَتَطَيَّرُ بِمَا لَا يَخَافُ مِنْهُ عَادَةً كَالْعُبُورِ بَيْنَ الْغَنَمِ يُخَافُ لِذَلِكَ أَنْ لَا تُقْضَى حَاجَتُهُ بِهَذَا السَّبَبِ فَهَذَا كُلُّهُ خَوْفٌ حَرَامٌ، وَمِمَّا وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ قَلِيلٌ أَنْ يَتَفَطَّنَ لَهُ قَوْله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: ١٠] فَمَعْنَى هَذَا التَّشْبِيهِ فِي هَذِهِ الْكَافِ قَلَّ مَنْ يُحَقِّقُهُ، وَهُوَ قَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي سِيَاقِ الذَّمِّ وَالْإِنْكَارِ مَعَ أَنَّ فِتْنَةَ النَّاسِ مُؤْلِمَةٌ، وَعَذَابُ اللَّهِ مُؤْلِمٌ، وَمَنْ شَبَّهَ مُؤْلِمًا بِمُؤْلِمٍ كَيْفَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ هَذَا التَّشْبِيهَ وَمُدْرَكُ الْإِنْكَارِ بَيِّنٌ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - وَضَعَ عَذَابَهُ حَاثًّا عَلَى طَاعَتِهِ وَزَاجِرًا عَنْ مَعْصِيَتِهِ فَمَنْ جَعَلَ أَذِيَّةَ النَّاسِ حَاثَّةً عَلَى طَاعَتِهِمْ فِي ارْتِكَابِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَزَاجِرَةً لَهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ عَذَابِ اللَّهِ وَفِتْنَةِ النَّاسِ فِي الْحَثِّ وَالزَّجْرِ وَشَبَّهَ الْفِتْنَةَ بِعَذَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالتَّشْبِيهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ حَرَامٌ قَطْعًا مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ وَاسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ الشَّرْعِيِّ فَأُنْكِرَ عَلَى فَاعِلِهِ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ خَوْفِ غَيْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ سِرُّ التَّشْبِيهِ هَا هُنَا، وَقَدْ يَكُونُ الْخَوْفُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَيْسَ مُحَرَّمًا كَالْخَوْفِ مِنْ الْأُسُودِ وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالظُّلْمَةِ، وَقَدْ يَجِبُ الْخَوْفُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَمَا أَمَرَنَا بِالْفِرَارِ مِنْ أَرْضِ الْوَبَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْهَا عَلَى أَجْسَامِنَا مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ، وَفِي الْحَدِيثِ «فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ» فَصَوْنُ النَّفْسِ وَالْأَجْسَامِ وَالْمَنَافِعِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ وَاجِبٌ، وَعَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ فَقِسْ يَظْهَرْ لَك مَا يَحْرُمُ مِنْ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَمَا لَا يَحْرُمُ وَحَيْثُ تَكُونُ الْخَشْيَةُ مِنْ الْخَلْقِ مُحَرَّمَةً وَحَيْثُ لَا تَكُونُ فَاعْلَمْ ذَلِكَ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
وَرَعَ إلَّا أَنْ تَقُولَ: إنَّ الْمُحَرَّمَ إذَا عَارَضَهُ الْوَاجِبُ قُدِّمَ عَلَى الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ رِعَايَةَ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ حُصُولِ الْمَصَالِحِ، وَهُوَ الْأَنْظَرُ فَيُقَدَّمُ الْمُحَرَّمُ هَا هُنَا فَيَكُونُ الْوَرَعُ التَّرْكَ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ مَكْرُوهٌ فَلَا وَرَعَ لِتَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ وَالْوَاجِبِ، وَيُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْمَكْرُوهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ، وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ تَجْرِي قَاعِدَةُ الْوَرَعِ، وَهَذَا مَعَ تَقَارُبُ الْأَدِلَّةِ أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ ضَعِيفَ الدَّلِيلِ جِدًّا بِحَيْثُ لَوْ حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَنَقَضْنَاهُ لَمْ يَحْسُنْ الْوَرَعُ فِي مِثْلِهِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ شَرِيعَةً. اهـ. وَذَهَبَ الْإِمَامُ ابْنُ الشَّاطِّ إلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ لَا يُعَدُّ مِنْ الْوَرَعِ، وَقَالَ: لَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ الشِّهَابُ لِوُجُوهٍ
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) : أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَرَعَ فِي ذَلِكَ تَوَقُّعُ الْعِقَابِ، وَأَيُّ عِقَابٍ يُتَوَقَّعُ فِي ذَلِكَ أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ الْأَقْوَالِ دُونَ غَيْرِهِ فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ وَعَدَمِ تَعْيِينِهِ فَلَا يَصِحُّ دُخُولُ الْوَرَعِ فِي خِلَافِ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ
(الْوَجْهُ الثَّانِي) : أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى دُخُولِ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ تَوَقُّعِ الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بِالدَّلِيلِ الْإِجْمَاعِيِّ الْقَطْعِيِّ
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) : كَيْفَ يَصِحُّ دُخُولُ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» فَأَطْلَقَ الْقَوْلَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَلَا تَفْصِيلٍ، وَلَا تَنْبِيهٍ عَلَى وَجْهِ الْوَرَعِ فِي ذَلِكَ
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) أَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ التَّنْبِيهُ فِي ذَلِكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْنِي الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ (الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ الْخِلَافِ لَا يَتَأَتَّى فِي مِثْلِ مَا مَثَّلَ بِهِ الشِّهَابُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَالِانْكِفَافِ عَنْهُ، فَإِنْ أَقْدَمَ الْمُكَلَّفُ فَقَدْ وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُحَلِّلِ، وَإِنْ انْكَفَّ عَنْهُ فَقَدْ وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُحَرِّمِ، فَأَيْنَ الْخُرُوجُ عَنْ الْخِلَافِ إنَّمَا ذَلِكَ عَمَلٌ عَلَى وَفْقِ أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ لَا خُرُوجٌ عَنْ الْمَذْهَبَيْنِ، وَمِثَالُهُ أَكْلُ لُحُومِ الْخَيْلِ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَمْنُوعٌ، أَوْ مَكْرُوهٌ عِنْدَ مَالِكٍ فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْأَكْلِ فَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ انْكَفَّ فَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ قَالَ: وَمَا قَالَهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفُوا لَنَا فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَعَدَمِهَا مِنْ أَنَّ الْقَائِلَ بِهَا مُثْبِتٌ لِأَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الثَّانِي، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُ إنْ عَنَى بِتَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ كَمَا إذَا قَالَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ لِزَيْدٍ عِنْدَ عَمْرٍو دَيْنًا وَقَالَتْ الْأُخْرَى: لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلَا تَعَارُضَ؛ لِأَنَّ النَّافِيَةَ مَعْنَى نَفْيِهَا أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ شَيْئًا أَوْ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلَا تَعَارُضَ.
وَلَيْسَ نَفْيُهَا أَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute