الرُّؤْيَا مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَكَّلَ مَلَكًا بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ يَنْقُلُ لِكُلِّ أَحَدٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لَا يَتْرُكُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ ذَكَرَهُ مَنْ ذَكَرَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَجُوزُ تَعْبِيرُهُ، وَمَا عَدَاهُ لَا يُعَبَّرُ وَفِي الْفَرْقِ سَبْعُ مَسَائِلَ.
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى)
خَرَّجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» قَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَقَى: قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ أَنَّ مُدَّةَ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ نُبُوَّةٌ بِالرُّؤْيَا فَأَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصُّبْحِ وَنِسْبَةُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا وَقِيلَ: أَجْزَاءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ، وَرُوِيَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ وَرُوِيَ مِنْ سَبْعِينَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي الرُّؤْيَا فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَالْأَكْثَرُ مِنْ الْعَدَدِ عَلَى الرُّؤْيَا الْخَفِيَّةِ أَوْ تَكُونُ السِّتَّةُ وَالْأَرْبَعُونَ هِيَ الْمُبَشِّرَةَ، وَالسَّبْعُونَ هِيَ الْمُحْزِنَةَ وَالْمَخُوفَةَ لِقِلَّةِ تَكَرُّرِهِ، وَلِمَا يَكُونُ جِنْسُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَفِي الْقَبَسِ رُوِيَ أَيْضًا خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَخَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ فَاخْتَلَفَتْ الْأَعْدَادُ؛ لِأَنَّهَا رُؤْيَا النُّبُوَّةِ لَا نَفْسُ النُّبُوَّةِ وَجُعِلَتْ بِشَارَاتٍ بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ جُزْءًا مِنْ سَبْعِينَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ زَادَ حَتَّى بَلَغَ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ قَالَ: وَتَفْسِيرُهَا بِمُدَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ لِنَقْلٍ صَحِيحٍ، وَلَمْ يُوجَدْ، قَالَ: الْأَحْسَنُ قَوْلُ الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ عَالِمُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ: إنَّ نِسْبَةَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ إلَى النُّبُوَّةِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الرَّائِي فَرُؤْيَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ عَلَى نِسْبَتِهِ، وَاَلَّذِي دُونَ دَرَجَتِهِ دُونَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَمْ يَبْقَ بَعْدِي مِنْ النُّبُوَّةِ إلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ» حَضٌّ عَلَى نَقْلِهَا وَالِاهْتِمَامِ بِهَا لِيَبْقَى لَهُمْ بَعْدَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ فَبَشَّرَ بِذَلِكَ أُمَّتَهُ.
وَلَا يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا إلَّا مَنْ يَعْلَمُهَا وَيُحْسِنُهَا، وَإِلَّا فَلْيَتْرُكْ.
وَسُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيُفَسِّرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ؟ قَالَ: أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَبُ قِيلَ: لَهُ أَيُفَسِّرُهَا عَلَى الْخَيْرِ، وَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى الشَّرِّ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: الرُّؤْيَا عَلَى مَا أُوِّلَتْ فَقَالَ: الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ أَفَيُتَلَاعَبُ بِأَمْرِ النُّبُوَّةِ.
وَفِي الْمُوَطَّإِ «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ الشَّيْءَ يَكْرَهُهُ فَلْيَتْفُلْ يَسَارَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إذَا اسْتَيْقَظَ وَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ إنْ
ــ
[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]
لَا يُطْلَبَ مِنْهُ فِعْلٌ إلَّا حَيْثُ جَرَتْ عَادَتُهُ بِإِجْرَائِهِ فِيهِ، وَأَنْ لَا يُخَالِفَ عَوَائِدَهُ بَلْ يَجْرِي عَلَيْهَا، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - مَلِكُ الْمُلُوكِ، وَأَعْظَمُ الْعُظَمَاءِ بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ رَتَّبَ مُلْكَهُ عَلَى عَوَائِدَ أَرَادَهَا وَأَسْبَابٍ قَدَّرَهَا وَرَبَطَ بِهَا آثَارَ قُدْرَتِهِ، وَلَوْ شَاءَ لَمْ يَرْبِطْهَا فَجَعَلَ الرَّيَّ بِالشُّرْبِ، وَالشِّبَعَ بِالْأَكْلِ، وَالِاحْتِرَاقَ بِالنَّارِ، وَالْحَيَاةَ بِالتَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ فَمَنْ طَلَبَ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - حُصُولَ هَذِهِ الْآثَارِ بِدُونِ أَسْبَابِهَا فَقَدْ أَسَاءَ الْأَدَبَ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - بَلْ يَلْتَمِسُ فَضْلَهُ فِي عَوَائِدِهِ وَالْخَلَائِقُ قَدْ انْقَسَمُوا فِي مَقَامِ طَلَبِهِمْ مِنْهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - هَذِهِ الْآثَارَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ
(الْقِسْمُ الْأَوَّلُ) عَامَلُوا اللَّهَ - تَعَالَى - بِاعْتِمَادِ قُلُوبِهِمْ عَلَى قُدْرَتِهِ - تَعَالَى - مَعَ إهْمَالِ الْأَسْبَابِ وَالْعَوَائِدِ فَلَجَّجُوا فِي الْبِحَارِ فِي زَمَنِ الْهَوْلِ وَسَلَكُوا الْقِفَارَ الْعَظِيمَةَ الْمُهْلِكَةَ بِغَيْرِ زَادٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فَهَؤُلَاءِ حَصَلَ لَهُمْ التَّوَكُّلُ، وَفَاتَهُمْ الْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعِبَادِ أَحْوَالُهُمْ مَسْطُورَةٌ فِي كُتُبِ الرَّقَائِقِ
(وَالْقِسْمُ الثَّانِي) : لَاحَظُوا الْأَسْبَابَ وَأَعْرَضُوا عَنْ التَّوَكُّلِ وَهُمْ عَامَّةُ الْخَلْقِ، وَشَرُّ الْأَقْسَامِ فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا وَصَلُوا بِمُلَاحَظَةِ الْأَسْبَابِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُسَبِّبِ إلَى الْكُفْرِ
(وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ) : عَامَلُوا اللَّه - تَعَالَى - بِاعْتِمَادِ قُلُوبِهِمْ عَلَى قُدْرَتِهِ - تَعَالَى - مَعَ عَدَمِ إهْمَالِ الْأَسْبَابِ وَالْعَوَائِدِ بَلْ طَلَبُوا فَضْلَهُ فِي عَوَائِدِهِ مُلَاحِظِينَ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ مُسَبِّبَهَا وَمُيَسِّرَهَا فَجَمَعُوا بَيْنَ التَّوَكُّلِ وَالْأَدَبِ، وَهُمْ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَخَاصَّةُ عِبَادِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْعَارِفُونَ بِمُعَامَلَتِهِ.
وَهُمْ خَيْرُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ جَعَلَنَا اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ قَالَ: وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يُهْمِلُ الْأَسْبَابَ وَيُفَرِّطُ فِي التَّوَكُّلِ بِحَيْثُ يَجْعَلُ التَّوَكُّلَ عَدَمَ الْأَسْبَابِ، أَوْ مِنْ شَرْطِهِ عَدَمُ الْأَسْبَابِ أَنَّهُ إذَا قِيلَ: الْإِيمَانُ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالْكُفْرُ سَبَبٌ لِدُخُولِ النَّارِ بِالْجَعْلِ الشَّرْعِيِّ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ فَهَلْ هُوَ تَارِكٌ هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ أَوْ مُعْتَبِرُهُمَا فَإِنْ تَرَكَ اعْتِبَارَهُمَا خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَإِنْ اعْتَبَرَهُمَا فَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ وَتَرَكَ الْكُفْرَ قِيلَ لَهُ: مَا بَالُ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ، فَإِنَّ هَذَيْنِ إنْ كَانَا لَا يُنَافِيَانِ التَّوَكُّلَ فَغَيْرُهُمَا كَذَلِكَ نَعَمْ الْأَسْبَابُ نَوْعَانِ نَوْعٌ مُطَّرِدٌ فِي مَجْرَى عَوَائِدِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْغِذَاءِ وَالتَّنَفُّسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَنَوْعٌ أَكْثَرِيٌّ غَيْرُ مُطَّرِدٍ أَجْرَى اللَّهُ فِيهِ عَادَةً مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ كَالْأَدْوِيَةِ وَأَنْوَاعِ الْأَسْفَارِ لِلْأَرْبَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْأَدَبَ فِي الْجَمِيعِ الْتِمَاسُ فَضْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي عَوَائِدِهِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِالدَّوَاءِ وَالْحِمْيَةِ وَاسْتِعْمَالِ الْأَدْوِيَةِ حَتَّى الْكَيِّ بِالنَّارِ «فَأَمَرَ بِكَيِّ سَعْدٍ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ وَالْحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ وَصَلَاحُ كُلِّ جِسْمٍ مَا اعْتَادَ» وَإِذَا كَانَ حَالُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي