للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَاجَةٌ

(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ)

قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِدْرَاكُ يُضَادُّهُ النَّوْمُ اتِّفَاقًا وَالرُّؤْيَا إدْرَاكُ الْمِثْلِ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ تَجْتَمِعُ مَعَ النَّوْمِ وَأَجَابَ بِأَنَّ النَّفْسَ ذَاتُ جَوَاهِرَ فَإِنْ عَمَّهَا النَّوْمُ فَلَا إدْرَاكَ وَلَا مَنَامَ، وَإِنْ قَامَ عَرَضُ النَّوْمِ بِبَعْضِهَا أَمْكَنَ قِيَامُ إدْرَاكِ الْمَنَامِ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ؛ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمَنَامَاتِ آخِرُ اللَّيْلِ عِنْدَ خِفَّةِ النَّوْمِ

(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُدْرَكَ إنَّمَا هُوَ الْمِثَالُ، وَبِهِ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ كَوْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرَى فِي الْآنِ الْوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ فَإِنَّ الْمَرْئِيَّ فِي الْمَكَانَيْنِ مِثَالَانِ فَلَا إشْكَالَ إذَا تَعَدَّدَتْ الْمَظْرُوفَاتُ بِتَعَدُّدِ الظُّرُوفِ إذْ الْمُشْكِلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَأَجَابَ الصُّوفِيَّةُ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَالشَّمْسِ تُرَى فِي أَمَاكِنَ عِدَّةٍ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَرَاهُ زَيْدٌ فِي بَيْتِهِ وَيَرَاهُ عَمْرٌو بِجُمْلَتِهِ فِي بَيْتِهِ أَوْ دَاخِلَ مَسْجِدِهِ وَالشَّمْسُ إنَّمَا تُرَى مِنْ أَمَاكِنَ عِدَّةٍ، وَهِيَ فِي مَكَان وَاحِدٍ فَلَوْ رُئِيَتْ دَاخِلَ بَيْتٍ بِجِرْمِهَا اسْتَحَالَ رُؤْيَةُ جِرْمِهَا فِي دَاخِلِ بَيْتٍ آخَرَ، وَهُوَ الَّذِي يُوَازِنُ رُؤْيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتَيْنِ أَوْ مَسْجِدَيْنِ، وَالْإِشْكَالُ لَمْ يَرِدْ رُؤْيَتَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ مَوَاضِعَ عِدَّةٍ، وَهُوَ فِي مَكَان وَاحِدٍ إنَّمَا وَرَدَ فِيهِ كَيْفَ يُرَى فِي مَوَاضِعَ عِدَّةٍ بِجُمْلَةِ ذَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ مَعَ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ حُلُولَ الْجِسْمِ الْوَاحِدِ فِي الزَّمَنِ الْوَاحِدِ فِي مَكَانَيْنِ مُحَالٌ فَلَا يُتَّجَهُ الْجَوَابُ إلَّا بِأَنَّ الْمَرْئِيَّ مِثَالُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا ذَاتُهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَرْئِيٍّ مِنْ بَحْرٍ أَوْ جَبَلٍ أَوْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ إنَّمَا يُرَى مِثَالُهُ لَا هُوَ بِذَاتِهِ، وَبِهِ يَظْهَرُ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي» وَأَنَّ التَّقْدِيرَ مَنْ رَأَى مِثَالِي فَقَدْ رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِمِثَالِي، وَأَنَّ الْخَبَرَ إنَّمَا يَشْهَدُ بِعِصْمَةِ الْمِثَالِ عَنْ الشَّيْطَانِ، وَنَصَّ الْكَرْمَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ فِي تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا أَنَّ الرُّسُلَ وَالْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ وَالْمَلَائِكَةَ أَيْضًا كَذَلِكَ مَعْصُومَةٌ عَنْ تَمَثُّلِ الشَّيْطَانِ بِمِثْلِهَا وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْمِثْلِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الشَّيْطَانِ وَأَنَّهُ تَمَثَّلَ بِذَلِكَ الْمِثَالِ

(الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ)

قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّمَا تَصِحُّ رُؤْيَةُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا صَحَابِيٌّ رَآهُ فَعَلِمَ صِفَتَهُ فَانْطَبَعَ فِي نَفْسِهِ مِثَالُهُ فَإِذَا رَآهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ رَأَى مِثَالَهُ الْمَعْصُومَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَيَنْتَفِي عِنْدَ اللُّبْسِ وَالشَّكِّ فِي رُؤْيَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَثَانِيهِمَا: رَجُلٌ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ سَمَاعُ صِفَاتِهِ الْمَنْقُولَةِ فِي الْكُتُبِ حَتَّى انْطَبَعَتْ فِي نَفْسِهِ صِفَتُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمِثَالُهُ الْمَعْصُومُ كَمَا حَصَلَ ذَلِكَ لِمَنْ رَآهُ فَإِذَا رَآهُ

ــ

[حاشية ابن الشاط = إدْرَار الشُّرُوقِ عَلَى أَنْوَاءِ الْفُرُوقِ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[تَهْذِيب الْفُرُوقِ وَالْقَوَاعِدِ السنية فِي الْأَسْرَارِ الْفِقْهِيَّةِ]

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: ١٠٩] {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: ٨٩] {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: ٥٤] اهـ وَالْغِبْطَةُ تَمَنِّي حُصُولِ مِثْلِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ لِنَفْسِك مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِطَلَبِ زَوَالِهَا عَنْ صَاحِبِهَا بَلْ تَشْتَهِي مِثْلَهَا لِنَفْسِك مَعَ بَقَائِهَا لِذَوِيهَا، وَقَدْ تُخَصُّ بِاسْمِ الْمُنَافَسَةِ.

وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِلَفْظِ الْحَسَدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ» أَيْ لَا غِبْطَةَ إلَّا فِي هَاتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، وَفِي الزَّوَاجِرِ: وَلَيْسَتْ الْغِبْطَةُ وَالْمُنَافَسَةُ بِحَرَامٍ أَيْ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِمَفْسَدَةٍ أَلْبَتَّةَ بَلْ هِيَ إمَّا وَاجِبَةٌ، وَإِمَّا مَنْدُوبَةٌ، وَإِمَّا مُبَاحَةٌ قَالَ - تَعَالَى - {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: ٢٦] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: ٢١] وَالْمُسَابَقَةُ تَقْتَضِي خَوْفَ الْفَوْتِ فَالْوَاجِبَةُ تَكُونُ فِي النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ الْوَاجِبَةِ كَنِعْمَةِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَالزَّكَاةِ فَيَجِبُ أَنْ تُحِبَّ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْقَائِمِ بِذَلِكَ، وَإِلَّا كُنْت رَاضِيًا بِالْمَعْصِيَةِ، وَالرِّضَا بِهَا حَرَامٌ (وَالْمَنْدُوبَةُ) تَكُونُ فِي الْفَضَائِلِ وَالْعُلُومِ وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي الْمِيرَاثِ.

وَالْمُبَاحَةُ تَكُونُ فِي النِّعَمِ الْمُبَاحَةِ كَالنِّكَاحِ، وَالْمُنَافَسَةُ فِي الْمُبَاحَاتِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إثْمٌ لَكِنَّهَا تَنْقُصُ مِنْ الْفَضَائِلِ، وَتُنَاقِضُ الزُّهْدَ وَالرِّضَا بِالْمَقْضِيِّ وَالتَّوَكُّلِ، وَتُحْجَبُ عَنْ الْمَقَامَاتِ الرَّفِيعَةِ نَعَمْ هُنَا دَقِيقَةٌ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ لَهَا، وَإِلَّا وَقَعَ الْإِنْسَانُ فِي الْحَسَدِ الْحَرَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ أَيِسَ أَنْ يَنَالَ مِثْلَ نِعْمَةِ الْغَيْرِ فَبِالضَّرُورَةِ أَنَّ نَفْسَهُ تَعْتَقِدُ أَنَّهُ نَاقِصٌ عَنْ صَاحِبِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَأَنَّهَا تُحِبُّ زَوَالَ نَقْصِهَا، وَزَوَالُهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمُسَاوَاةِ ذِي النِّعْمَةِ أَوْ بِزَوَالِهَا عَنْهُ، وَقَدْ فَرَضَ يَأْسُهُ عَنْ مُسَاوَاتِهِ فِيهَا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مَحَبَّتُهُ لِزَوَالِهَا عَنْ الْغَيْرِ الْمُتَمَيِّزِ بِهَا عَنْهُ؛ إذْ بِزَوَالِهَا يَزُولُ تَخَلُّفُهُ.

وَتَقَدُّمُ غَيْرِهِ بِهَا، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ قَدَرَ عَلَى زَوَالِهَا عَنْ الْغَيْرِ أَزَالَهَا فَهُوَ حَسُودٌ حَسَدًا مَذْمُومًا، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ التَّقْوَى مَا يَمْنَعُهُ عَنْ إزَالَتِهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، وَعَنْ مَحَبَّةِ زَوَالِهَا عَنْ الْغَيْرِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ لَا تَنْفَكُّ النَّفْسُ عَنْهُ، وَلَعَلَّهُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ ابْنِ آدَمَ حَسُودٌ» وَفِي رِوَايَةٍ «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْفَكُّ الْمُسْلِمُ عَنْهُنَّ الْحَسَدُ وَالظَّنُّ وَالطِّيَرَةُ، وَلَهُ مِنْهُنَّ مَخْرَجٌ إذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ» أَيْ إنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِك شَيْئًا فَلَا تَعْمَلْ بِهِ، وَيَبْعُدُ مِمَّنْ يُرِيدُ مُسَاوَاةَ غَيْرِهِ فِي النِّعْمَةِ فَيَعْجِزُ عَنْهَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مِنْ أَقْرَانِهِ أَنْ يَنْفَكَّ عَنْ الْمَيْلِ إلَى زَوَالِهَا فَهَذَا الْحَدُّ مِنْ الْمُنَافَسَةِ يُشْبِهُ الْحَسَدَ الْحَرَامَ فَيَنْبَغِي الِاحْتِيَاطُ التَّامُّ فَإِنَّهُ مَتَى صَفَّى إلَى مَحَبَّةِ نَفْسِهِ وَمَالَ لِاخْتِيَارِهِ إلَى مُسَاوَاتِهِ لِذِي النِّعْمَةِ بِمَحَبَّةِ زَوَالِهَا عَنْهُ فَهُوَ مُرْتَبِكٌ فِي الْحَسَدِ

<<  <  ج: ص:  >  >>