للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فانظر كيف كانوا يحرصون على ابتغاء الدقة والتحري قدر المستطاع وفي حدود الممكن (١). غير أن القيافة كما ذكرنا في التعريف من قبل تعتمد على غلبة الظن المقارب للشك لا اليقين، ولذلك فلقد اعتبروها أضعف الأدلة - سوى الإقراع - ولم يلجؤوا إليها إلا عند التنازع وانعدام ما هو أقوى منها.

ولقد وافق الجمهور الصواب بالعمل بالقيافة حيث إنها أفضل المتاح وتحصل بها غلبة الظن التي تنبني عليها الأحكام في العادة. ولهم دليلهم من السنة، فلقد عمل بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنه- «أن هلال بن أمية -رضي الله عنه- قذف امرأته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بشَريك بن سَحْماءَ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: البينة أو حدٌّ في ظهرك، فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدُنا رجُلًا على امرأته يلتمسُ البينة؟! فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: البينةُ أو حَدٌّ في ظهرك فقال هلال: والذي بعثك بالحق نبيًّا إني لصادق، وليُنزِلنَّ الله في أمري ما يُبَرّئُ ظهري من الحدّ، فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: ٦] قرأ حتى بلغ {مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: ٩] فانصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- فأرسل إليهما فجاءا، فقام هلال بن أُمية فشهد والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: الله يعلم أن أحدَكما كاذب، فهل منكما من تائب؟ ثم قامت فشهدت، فلما كان عند الخامسة {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: ٩]، وقالوا لها: إنها مُوجِبة، قال ابن عباس: فتلكأَت وَنَكَصت حتى ظننا أنها سترجع، فقالت: لا أفضحُ قومي سائرَ اليوم، فمضتْ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أَبْصِروها فإنْ جاءتْ به أكْحَلَ العينين سابغ الألْيَتَيْن خَدَلَّجَ الساقين فهو لشَرِيكِ بن سَحْماَء فجاءت به كذلك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لَوْلا مَا مَضَى من كِتَابِ اللهِ لَكَانَ لي ولهَا شَأنٌ» (٢).


(١) فإذا اتسعت دائرة الممكن بتطور العلوم فلا يتصور من هؤلاء الفقهاء وسلفهم الصالحين أن يتركوا العمل بما هو أفضل وأدق.
(٢) «سُنَن أبي دَاوُد» كتاب الطلاق، باب في اللعان، (٢/ ٢٧٦ رقم ٢٢٥٤) وصححه الألبَانِيّ. انظر «سُنَن أبي دَاوُد» بتحقيق مشهور: رقم (٢٢٥٤).

<<  <   >  >>