ضفاف النيل لأول مرة. لم ينبت القمح بقوة أوزير يس ولا بعناية سيريس بل نبت بقوة الفلاح. ولست تجد على وجه الأرض قمحاً ينبت بنفسه على الحالة الطبيعية، بل كل حقل من حقول القمح يحتاج إلى جهد إنساني عظيم. ولا تتحسن زراعته إلا إذا كان العمل دائماً. ولعله أحسن النباتات دليلاً على ضرورة استمرار الجهود وسرعة الإنتاج. فمن فلاحة الأرض إلى بذر القمح إلى حصاده ودرسه كل ذلك يقتضي عملاً سريعاً دائماً.
ثم إن الفلاح يرسل القمح على أجنحة البخار السريعة، إلى أقصى مناطق الأرض. فيملا به المخازن والمعامل. إن اختلاف الأقاليم، وتنوع صناعات البشر وحاجة بعض البلدان إلى القمح قربت المناطق بعضها من بعض فتولد من ذلك كله تجارة دولية ومصالح مشتركة عديدة. وربما كانت هذه المصالح أساس السلام العالمي لأنها وحدت عواطف الأمم. إلا أن القواد لا يزالون يتطاحنون في سبيل الأسواق التجارية ويحولون أكوام الذهب إلى رماد، والفلاح غير عالم بمصير القمح الذهبي الذي باعه لعملائه. ولو بعث اليوم أهل العصر الزراعي لتحيروا مما وصل إليه الفلاح في عصر الصناعة الكبرى من الرفاه والراحة. لماذا هجر الفلاح حقله واستبدل به المعمل؟ لم يأت إلى المدينة باحثاً عن مصير حبات القمح، بل جاء يطلب الرفاه هارباً من الجوع والفقر والألم. ولو وجد الرفاه في القرية بالقرب من أكوام الذهب لما ترك الحقل. فإذا أردت أن يبقى الفلاح في حقله فاقلب قريته إلى مدينة، وابنِ في حقله معملاً وجهزه بكل وسائل الرفاه، واستبدل جمال الطبيعة الساذج بجمال الفن الساحر. إن الفلاح الذي يسير الآلة أعظم من الفلاح الذي يبذر القمح بيده. والقمح في المعمل لا يقل جمالاَ عنه في الحقل لأن الجمال الحقيقي هو جمال الإنسان لا جمال الطبيعة. أن الجنة لا تدخل بطن الأرض ألا بقوة الإنسان وإيمانه. ولم تكس أكوام القمح بهذا اللون الذهبي إلا لانتقال آثار الحضارة من جيل إلى جيل. كل حبة من حبات القمح تدل على عمل الإنسان وجهوده وإيمانه بالحياة والقوة والتقدم. فهو يثق بصناعته ويؤمن بنفسه وبالمستقبل ويعتقد أن الأرض التي قلب ترابها ستخضع للقيود التي قيدها بها. فالقمح لا ينبت بقوة الطبيعة، بل ينبت بقوة الفلاح. والفلاح لا يستفيد من قوة الأرض، بل من قوة الصناعة الإنسانية التي خبأتها الأجيال في التراب فكأن المخترع الذي أخترع المحراث لات يزال اليوم إلى جانب الفلاح يحرث الأرض معه. وكأن المدينة كلها موجودة