في محطة السكة الحديدية الكبرى المغمورة بالأنوار كانت ضوضاء مزعجة: آلاف من البشر يسرعن في خطواتهم وكلماتهم المتقطعة تتطاير وبائعو المرطبات والصحف ترن أصواتهم الحادة وتتجاوب مع صراخ الحمالين وتختلط بقعقعة أواني الطعام في غرف الانتظار وتضيع جميعها بين طنين الأجراس وصفير القطارات الذاهبة والقادمة وقرقعة عجلاتها التي ترتجف الأرض من اهتزازها. وكانت الروائح المنتشرة من أجسام المزدحمين والعطور المختلفة ودخان (السكاير) ورائحة الزيوت والأطعمة والصابون تمتزج بعضها مع بعض وتملأ الهواء الكثيف. والجموع المحتشدة من الركاب الذاهبين والقادمين تموج وتختلط. ووكلاء الفنادق يعرضون على الغرباء بأصوات مرتفعة غرفاً منخفضة الأسعار والسيارات على أبواب المحطة (تزمر) والمسافرون يهرفون ويضحكون ويسألون ويتنازعون ويسألون ويتنازعون مع الحمالين.
إزاء هذه الضوضاء وبريق الأنوار المرتعشة في المدينة التي كان الظلام قد هجم عليها وبدأت الآن النجوم تبزغ في سمائها الفسيحة صاح أحد القادمين:
- ما أجمل المدينة العظيمة في الليل!
وفي بهو المحطة استقبل بعض الرأسماليين زملائهم من مساهمي إحدى الشركات الكبرى وامتطى الجميع متن السيارات الخاصة.
- هيا بنا، إذن
قال أحدهم وقد هبط على المقعد الوثير: إن الجلسة الإدارية سوف تكون حامية الوطيس. وفي الساحة أمام المحطة كانت حافلات الترام تنهب الأرض ولم يكد أحد القادمين يعرب لرفيقه عن إعجابه بهذه السرعة الزائدة حتى سمع صوتاً مخيفاً:
(آخ!) ووقفت السيارات والحافلات فجأة وقفز الركاب يرتعشون رعباً وتراكض الناس من جميع الجهات وازدحموا على مكان الصراخ وظهرت بينهم خوا رجال الشرطة تلمع. . .