اعتاد الناس أن يطلبوا التضحية من الكاتب فيريدون أن يضحي الكاتب بكل شيء في سبيل فنه، براحته ورفاهيته، بشهرته، وحتى بحياته، يريدون أن يكتب الكاتب بدمه. أما القارئ فمن يجسر على مطالبته بشيء من هذا؟ على أني كنت أتمنى لو أن القارئ يقبل بتضحية واحدة: بعادات فكره. كما يتعود اللسان نوعاً من الأطعمة، والجسم إقليماً خاصاً، كذلك الفكر، أنه أسرع إلى التعلق بالأشياء امن الجسم وأميل للراحة والجمود. فهو إذا سار على طريق، يؤلمه الانحراف عنها والمجازفة في طرق مجهولة. يطلب الناس من الكاتب جديداً، ولكن ما النفع من هذا الجديد إذا كانوا لا يرونه ولا يسمعونه إلا بأعين وآذان قديمة؟ إني قلما أقدر الذي يكتسب هذه الصفة دون مقاومة وصراع عنيف. وقد لا يكون الجديد في أغلب الأحيان إلا صدى لملل القراء. أما الجديد الحقيقي فيظل مجهولاً زمناً حتى ولو صفقت له الجماهير، لأنها في الواقع تصفق لتلهي نفسها.
ومارسيل بروست من هذه الفئة التي تصطدم بما في الفكر البشري من عادات سقيمة فتذوق من العذابات أقساها في صراعها مع بلادة الناس، ولكنها ترقى إلى سماء الخلود على سلم هذه العذبات.
الأديب كالنبي، لابد أن يضطهد من أجل رسالته، لولا فرق بينهما يميز الأديب على النبي وهو أن هذا يحمل في جديدة بذور الموت إذ أنه يجيء بجديد يفرضه على المستقبل ويحرم عليه التجدد، في حين أن جوهر الأدب حرية لا نهاية لها.
إن حماقة الناس لا تفتأ منذ القديم في ندم متواصل على أخطاء متواصلة ومنذ القديم لا يزال الناس يتعاملون عن العبقرية إذ تكون ماثلة أمامهم، ثم يعودون فيندمون على جهلهم، ولكن بعد ابتعادها عنهم، مثل الناظر إلى لوحة تصوير فإنه لا يستطيع تقديرها ما لم يبتعد عنها بضع خطوات.
أليس من المشجي أن نرى مارسيل بروست، وقد أنهكته الأمراض، وأحس بالموت يدنو منه حثيث الخطى، يستعطف أصحاب المكاتب والناشرين، ويتقرب من الأدباء يطلب رفقهم برسالة يحسها كامنة في فؤاده ويخشى عليها الضياع في جسمه المريض العاني إذا هي لم تنقل إلى ملجأ أمين، وتودع في صفحات كتاب؟! ولكن الأدباء حتى أكابرهم لم يفهموا معنى تلك الرسالة، والناشرين حتى أحقرهم لم يرضوا أن يفسحوا مطابعهم لأفكار