إذا كان رمحك معوجّاً وكان عليك أن تبرز للطعان في الميدان فلا بد لك من تقويمه وتسويته، وهذا هو أصل التثقيف في اللغة العربية، ومن هذا المعنى البسيط المحسوس انتقل العرب بطريق المجاز إلى المعنى المركب المجرد فقالوا إذا كان ولدكمعوجّاًً وكان عليه أن يبرز للطعان في معترك الحياة كما هو المنتظر فلا بدَّ لك من تثقيفه وهو التقويم والتسوية.
ومن الهين أن نقول أن في الثقافة وهي مصدر ثقف اللازم معنى الاستقامة وأن خالفنا الذين أنكروا ذلك لقولهم إن هذا المعنى لم تنص عليه كتب اللغة التي بأيدينا فطريق الانتقال بينة ومحجته واضحة، ومن اللغو كل اللغو أن يحاول بخلاء الكلام المتحذلقون التقتير علينا بمال لا يمتلكونه وطعام لا يذوقونه، فاللغة الحية مثل الشجرة الباسقة تعيش وتنمو حتى بعد موت من زرعها بيه وتعهدها بعنايته. وإن كان هذا النمو متوقفاً على تلك الأصول المنتشرة في الأرض ومرتبطاً بالساق الصاعدة منها وقد أجاد العرب كثيراً في نظرهم إلى التثقيف المعنوي إنه سلاح يتذرع به الأعزل فيصير أهلاً للكفاح.
وقد يكون تاريخ اللغة وتدرج الكلمات من المحسوس إلى المجرد بطريق المجاز أن الاستعارة أهم مفتاح لمعرفة وجهة النظر في الأقوام المختلفة والسجل الذي تعرف به مناحيهم العقلية. وأذكر أن اتحاديي الترك أرادوا أن يترجموا القرآن إلى لغتهم الأصلية قبيل الحرب العالمية فلما وصلوا في ترجمة الفاتحة إلى أهدنا الصراط المستقيم والهداية هي الإرشاد بلطف قالوا (بزي طوغري يوله قامشيله) أي أدفعنا اللهم بالكرباج إلى الطريق المستقيم - فكأن لغة الترك تأمر بالهداية على طريقة القومانده العسكرية ليس إلا.
وإذا كان العرب قد اتخذوا من تقويم الرماح كلمة التثقيف لتقويم النفوس فإن الإفرنج اتخذوا من فلاحة الأرض كلمة (كولتور للدلالة على الثقافة، فوجهتنا في هذه الكلمة صراع وكفاح وعراك ووجهتهم اقتصاد واستثمار واستعمار فكأني بهم يقولون أن التثقيف هو حرث الأدمغة بسكة العلم وزرعها ببذور التربية وسقيها بماء الأدب وتعهدها بنور الفن لتصير دوحة يستظل بظلها المتعب ويأكل من ثمرها الجائع - أو لتصير قوة هائلة تطغى على