لقد هبط مدينتنا، على غير موعد، معلم اسمه آريل آتياً من إحدى الجزر البعيدة تلك الجزر التي لا يرسمها الجغرافيون على الخرائط بل تظهر من حين إلى حين على سطح البحار، كما تظهر في مخيلة الشعراء. ويقال أن آريل كان منذ زمن بعيد في خدمة أحد الأمراء المنفيين، وإن هذا الأمير المنفي قد باح له بأسرار ليس في وسع الإنسان سماعها أكثر من مرة واحدة. ولعله بسبب ذلك اعتاد ما نستغربه منه كثيراً وهو أنه لا يسمح لأي كان بحضور درسه أكثر من مرة واحدة. لأنه كان يقبل كل من يتقدم إليه بشرط أن لا يكون قد جاءه من قبل. ويطرد كل من يعود إليه مرة أخرى، وليس هناك من يستطيع المفاخرة فيزعم بأنه حضر درسه أكثر من مرة واحدة.
وكنت أقول لنفسي في كل يوم: لاشك أن الأستاذ قد علم أشياء جديدة وغريبة لأن جميع الذين يخرجون من القاعة التي يلقى بها دروسه يسيرون في شوارع المدينة وأزقتها مفكرين تائهين، كأنهم عائدون من عالم جديد أو كان الله بعث بهم أحياء بعد أن كانوا أمواتاً.
ولعل ما سيقوله في الغد من الأقوال ويلقيه من الدروس يكون أعظم وأهم. ولو أني ذهبت لما سمعته غداً ولفاتني اليوم الذي سيعلن فيه أهم تعاليمه وأغربها. لأن هذا الرجل ليس بالمعلم العادي، فيستطيع الإنسان سماع دروسه في كل يوم وحضورها إن كل واحد من تلاميذه عرضة لعذاب الأسف على المجهول الذي لا يعوض.
ولذلك فقد تركت أياماً كثيرة تمر دون أن أحضر درس آريل. فقد كنت أقف على بابه ساعات طويلة، مرتجفاً، قلقاً، متردداً في الدخول. وعندما كان تلاميذ ذلك اليوم يخرجون، كنت أسألهم عما قال المعلم، فلا أظفر منهم بجواب لأنهم كانوا ينظرون إلي نظرات تائهة كالخارج من الحلم ويبتعدون بخطى متثاقلة مضطربة.
وهكذا فقد مضت أيام كثيرة تغير في خلالها مجرى حياتي، إذ أنني أضعت وساوس كتبي وعادتي بتقبيل أمي في كل صباح ومساء. حتى أني نسيت مراقبة طلائع النجوم عندما يصل الليل. وأخيراً بعد أن نفد صبري، وأصبحت عاجزاً عن مقاومة رغبتي أكثر من