للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[اندره جيد]

أو

من الشك إلى القلق

كنت تلميذاً في دمشق دون الثامنة عشرة، أتهيأ لفحص البكالوريا وأكثر من قراءة المعري. وكما يحدث عادة عندما يدرس المرء كاتباً مدة طويلة أن يتقمص نوعاً ما في روح ذلك الكاتب وتتصل به بعض جريانات من كهربائية شخصيته، كذلك أصبحت بعد ملازمتي أبا العلاء أرى في الحياة رأيه، وأشكو منها شكاته، وصرت وأنا الفتى اليافع أحس بثقل السنين أجرها ورائي، ثم أعرض عن كل ما في الحياة من جمال في الصور وغنى في المشاعر، لألتفت إلى الموت وأتحين مفاجأته مذعوراً.

وكيف أقضي ساعة بمسرة ... وأعلم أن الموت من غرمائي؟

وغدا شك المعري المبني على سعة العلم وبعد غور الفكر، ذريعة لي كي أهرب من التعمق والجهد، واكتفي بشك سطحي أقذف به العالم، وأرضي غروري وكسلي! اتخذ وجهي هيئة من عرف الدنيا واختبر كل شيء فيها فملها وعافها، وعثر على الجواب الشافي لكل سؤال:

أما اليقين فلا يقين وإنما ... أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا

وكنت لم أزل واقفاً على شاطئ الحياة!. . .

قذفت بي الصدفة إلى باريس، فاصطدم المستنقع الذي كنت أحمله معي - حياتي القديمة - باوقيانوس خضم للحياة، أسلمت نفسي لأمواجه، عندما ذقت حلاوة لمسها وخفة دعابها. هناك على الشاطئ، وقدماي ما تزلان في تردد، وشبح الشيخ الأعمى يحول بيني وبين الشمس، لمحت ساحراً جديداً، قوي الجسم، طلق المحيا، غنائي هكذا!

ناتانائيل! أروم أن أدخل سرك وأخاطبك كما لم يخاطبك بعد إنسان. في تلك الساعة من الليل، إذ تكون فتحت وأغلقت كتباً كثيرة، تسأل كلاً منها ما لم تجبك بعد عليه، وإذ تكون معذباً يشفك الانتظار، ويكاد حماسك ينقلب إلى كآبة لأنك لم تلق من يمسك بيدك. إني لا أكتب إلا لك، ولا اكتب لك إلا من أجل هذه الساعة. أريد أن اقترب منك وأن تحبني. ناتانائيل! ليست الكآبة إلا الحماس الخائب.

هذا هو الصوت السحري الجديد الذي استهواني لأنه متصل بأعماق كياني وكيان كل

<<  <  ج: ص:  >  >>