للفكر في نهضة الأمم الخصيبة حركة فلسفية خاصة تنطبع بها ثقافتها بطوابع خاصة. وهذا الفكر القومي بمظهره لا يكون غذاؤه قومياً بحتاً، فهو يستمد عناصر أغذيته وهوام قوته من أية أمة توفرت في تربتها تلك المواد الغذائية النافعة، وذلك كالتصوف في الإسلام مثلا، فإنه حركة أو نزعة فلسفية عربية صرفة في أصله، أعجمية في فروعها، مختلفة بخصائصها عن سائر النزعات النسكية في الأديان الأخرى وبعبارة أوضح: نبتة نمت من بذرة نبوية ف تربة عربية، ولبثت تستمد غذاءها من تلك التربة السامية زهاء قرنين بما اقتبسته من حياة النبي العربي إلى الله عليه وسلم وهي حياة مترعة بالتحنث والرياضة والمجاهدة ومما استمدته من روحانية القرآن ومن سيرة الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين، وفي أواخر القرن الثاني للهجرة أخذ يتسرب إلى غذاء هذه العشبة النسكية ما سنشير إليه من بعض العناصر الأعجمية شأن أغتذاء الأحياء الآخذة في النشوء والارتقاء.
قلنا أن هذا التصوف هو حركة فلسفية بل هو فلسفة أدبية موضوعها النفس البشرية وغايتها تهذيب هذه النفس بنهيها عن الهوى، وتقويم ما أعوج والتوى منها بصدق المراقبة والمحاسبة والمجاهدة، ولا يتم ذلك للمزيد النشيط إلا إذا عرف غرائزها وطبائعها الموهوبة والمكسوبة، وإدراك الصحيح من المريض منها ليحسن تمريضها بإحسان ترويضها، فالصوفي الحقيقي على ذلك هو العالم النفساني - البسيكولوجي - الذي يبحث أبداً عن نفسه ويراقبها مراقبة الطبيب الناصح لمريضه ليقصيه عن كل ما يؤذيه، وليدنيه من كل ما يشفيه، وبفضل هذه المراقبة الدقيقة والمحاسبة العسيرة وقف علماء التصوف وأطباء الأرواح على أحوال القلوب وأهواء النفوس وطرائق معالجة أمراضها، وسجلوا في كتبهم تلك الأحوال النفسانية والأعراض المرضية والأدوية الطبية، فدونوا بذلك علم طب القلوب، وعينوا بالأسماء المخصصة التي اصطلحوا عليها تلك الأحوال تعيينا أصابوا في كثير منه، فزادوا بذلك من ثروة اللغة العلمية، ولو تفرغ بعض علمائنا لدرس التصوف درساً علمياً - كما فعل مثلاً من علماء الغرب ماسينيون، ومن علماء الترك أحمد نعيم - لوجدوا الشيء الكثير من مصطلحات علم النفس الحديث، ولعدم العثور عليها أو إيجاد ما