كنت في سفينة طليانية تتنقل بنا في البحر الأبيض المتوسط من جنوا إلى نابولي ومن نابولي إلى تونس ومن تونس إلى الجزائر. وكان مقرراً أن تدوم هذه الرحلة أياماً طويلة ولما رأيت السفينة تكاد تكون خالية من الركاب فقد اضطررت إلى الدخول في الحديث مرات عديدة مع أحد البحارة وهو شاب يعاون الخادم فيكنس الغرف وينظم الممشى ويقوم بما يشبه ذلك من الأعمال التي تعتبر حقيرة بين الناس.
كان في مقتبل العمر يتدفق بهجة وسروراً يبهر منظره الناس ويستلفت أبصارهم بلونه الأسمر الجميل وعينيه السوداويين البراقتين وأسنانه البيضاء اللامعة.
وكأن الشاب شعر بعطفي عليه واقتصار حديثي معه وحده من بين جميع البحارة فأخذ يسترسل في الكلام معي ولا يكتم عني شيئاً من الأسرار وهكذا لم ينقض يومان فقط حتى أصبحنا مثل صديقين أو رفيقين قديمين.
ولكن على أثر حادث طفيف شعرت فجأة كأن سداً منيعاً ارتفع بيني وبينه.
فقد كنا في مرفأ نابولي ثم غادرت السفينة بعد شحن الفواكه والخضر وأخذ الفحم والركاب والبريد وأصبحنا نرى السحب فوق بركان (الفيزو) من بعيد كأنها دخان سيكارة يتبدد في الهواء. وإذا بالشاب يقترب مني على حين غرة وضحكة سعيدة مرتسمة على شفتيه وأعطاني كتاباً استلمه، على ما يظهر، قبل برهة صغيرة في نابولي وطلب مني أن أقرأه له.
لم أفهم في بادئ الأمر ماذا يقصد. وذهب بي الظن إلى أن (جوفاني) وصله كتاب بلغة أجنبية، بالفرنسية أو بالألمانية، وعلى أكبر احتمال من فتاة، لأنه كان طبيعياً أن يحظى هذا الفتى الجميل بعطف النساء وميلهن، فيظهر أنه يريد مني ترجمة الكتاب إلى الطليانية. ولكن لا. لقد كانت الرسالة بلغة (جوفاني) إذاً ماذا يريد؟ هل اطلاعي على ما جاء فيه فقط؟
كلا أجابني مكرراٌ قوله بشيء من الشدة والضجر، بل أرجو أن تقرأه لي لأسمعه.
وفجأة أدركت كل شيء: إن هذا الشاب الجميل الذي يظهر عليه من الطبيعة العقل والأدب