كل حي، ذي خيال، مسير بقوة الحياة الحافزة يلمس في مساعيه الخاصة صفات الخير، ويرى الشر العميم في كل ما يخالف تلك المساعي، فكل عادة من عاداته وعاطفة من عواطفه تغدو حكما للأخرى، ثم تنضم هذه العادات في مجاميع مركبة
وكلها تستقر في أعماق نفسه وتسيره في الوجهة المناسبة. ولكنها لا تلبث هناك هادئة بل يغمرها تيار المنافسة فتحاول أن تتنازع على السيادة وأن تقسر بعضها البعض لإرادتها. من هذه المنافسة بين عواطف الإنسان يتألف تاريخه الخلقي كما أن الاصطدام بين مصالحه الذاتية ومصالح الجمعية يرسم له هدفاً معيناً والخيال الذي يرى في لمحة عابرة هذه المصالح المتضاربة في مجموعها ويتأملها في تصادمها وتألفها، هذا الخيال هو العقل نشيطاً قوياً تتوفر وسائل النجاح وتسود الجرأة النفسية وتتلاشى أسباب السقوط والاضمحلال. وما السعادة في نظر سبينورا - غير قوة نفسية يولدها العقل فتنكر كل مستحيل وتقبل كل أمر ضروري واقعي. وقوام هذه القوة نواميس الطبيعة وإدراك نظامها، ولذلك يدعوها سبينورا - معرفة الله ومحبته. السعادة - بهذا القياس - هي الغاية المثلى التي ينشدها فيلسوفنا، لأنها تضع حداً للأطماع الشاردة وتحمل الناس على الخضوع للقوى الموجودة كونية كانت أم سياسية. أما الوهم والغرور الإنسانيان فأنهما الباعث الأكبر على الفوضى الصارخة والخوف الذي يساور النفوس من قوى الطبيعة الغاشمة وسبينوزا بالرغم من خضوعه للسلطة المشروعة التي تمثلها القوانين الطبيعية لا يعرف هوادة في قضايا الفكر فهو بكل شجاعة وثقة يهدد الحكومة التي لا تمثل قوة الجمعية المنظمة بالاضمحلال والدين الذي يحرف موحيات العقل والضمير الإنساني بالتلاشي. ولما حرمته الدينية القروسطية من الامتيازات التي كان يتمتع بها أبناء دينه عاد إلى آراء الأنبياء الأصلية ونهل من معين اليهودية الأول. منذ ذلك الحين أصبح مصلحاً فذاً يحمل إلى العالم رسالة إصلاح جديدة تدعمها روح ورع فعالة لا تعبأ بتقاليد البشرية العمياء. وقد وعد الذين يعتنقون تعاليمه بالحصول على سعادة دنيوية معقولة مستمدة من نواميس الطبيعة ونظمها الثابتة.