لاشك أن الله لا يفكر كما نفكر ولا يحتذي الأساليب التي نحتذيها. ولكن الإنسان الصالح الذي يعمل للخير في أوسع معانيه بأتباعه للسنين الطبيعية التي تمثل الله يغدو سعيداً هادئ البال. وبالعكس فإن طريق الإثم شاق عسير يملؤه القتاد. فالقوانين الطبيعية، إذن، هي المبرر السامي للخلق النبيل، وهذا الخلق لا يتمثل بالتضحية الظاهرة المسرحية ولا بالإيمان الخادع الذي تولده العقائد الخيالية بل هو نتيجة طبيعية للنواميس الكونية متصل بها بأقوى الأسباب وأوثق الأواصر.
التفت العبرانيون المتأخرون، بعد اضمحلال شأنهم السياسي إلى التقوى الباطنية والشعور الرثائي النادب - كما نرى في المزامير - وقد وجدوا في القلب الكسير والنفس المصدوعة طريقاً جديداً للخلاص فحفن هذا (سبينوزا) إلى إضافة لون صوفي جديد للخلاص يضم إلى مزايا العملية: فقال أن الاحترام المجرد لإرادة الله والفهم الحقيقي لقوانين الطبيعة (والاثنان واحد في رأي سبينوزا) هما في ذاتهما ملك أثمن من الياقوت وأغلى من ألآلئ. والروح الفلسفية ليس لها وطن سوى بيت الله والمكان (الكون الشامل) الذي تستقر فيه عظمته، وكل ما في الطبيعة، هو بلا ريب، ومسرة للرجل الذي يدرك الضرورة الرياضية لجميع حوادث الكون.
تبتعد فلسفة سبينوزا الدينية عن الروح اليهودية وتقترب من الفكرة الإغريقية حينما تعالج فكرتي الحرية والخلود. وهما لا تدخلان في طريقته التي شرحناها.
كان سبينوزا جبرياً يرى في ظاهرات الكون حوادث مقدرة بكل دقة لا حيلة للإنسان في تسييرها وتبديل مجراها. فليس ثمة علاقات اجتماعية منفصلة، وجذب ودفع روائي بين الله والناس، كما يوحي إلينا التاريخ المقدس. وليس الله - في رأي سبينوزا - شخصاً في (درام) الوجود الشامل، بل هو الرواية بمؤامرتها وحركتها ومغزاها، وكل مظهر من مظاهرها. وقد كان سبينوزا يتخيل أن نفس الإنسان هي الوعي الذي يلازم حياته الجسدية. فإذا هلك الجسد بادت النفس بالضرورة. ولكنه بالرغم من ذلك كان يستعمل كلمتي الحرية والخلود في كل ما خطه يراعه ونضح به عقله. فما هما في نظره؟.
الحرية - في رأي سبينوزا - مساوية للقوة، والإنسان الحر هو الذي تكون طبيعته موحدة الأجزاء منسجمة في كلها تحسن التعبير عن ذاتها بوضوح في الفكرة وصراحة في العمل.