. . . كنت ابن خمسة عشر إذ ذاك، وكنت مغرماً بفتاة أخذتها وحدها من بين جميع بنات الحي مأخذ ملاك طاهر لأنها كانت ذات شعر كأمواج النور وعينين كسماء أيار. لكن اللعوبة لم تبال بحبي إذ كنت بحترياً دميماً، أميل إلى الإنفراد وأقطع الساعات حالماً. ولعله كان يحق لها أن تحب فؤاداً وتعرض عني. فقد كان هذا الشاب، ممشوق القامة، بهي الطلعة، ضحوك السن، طريف الحديث. ثم إن أباه كان، يملك بضعة آلاف عثمانية، مما جعل المستقبل، الذي يكشر لي مدبراً، يبسم لفؤاد ويضحك مقبلاً. إن قلت عبدته لم أكذب. ومن أحق بعبادة فتاة طموح تزين لها المخيلة أن الحياة حفلة راقصة وألعاب؟ لكن موقفها آلمني؟ فكنت أحس برجلها الصغيرة مدسوسة في قلبي. وما لبثت الأحلام العسلية إن انقلبت ذات مرارة وبشاعة فتاكتين. منذ ذلك الوقت، يوم خسرت الشيء الوحيد الذي كنت أملكه وهو حبي، أصابني داء يسميه الناس بداء الأرق. أصبحت ليلي جحيماً. وغدوت في أيامي أشعر برأسي دوَّراراً كدوار الأبله. كم كنت أود في ذلك الحين أن يعطيني الخالق أذناً كي أهمس بها ناصحاً بأن يجعل عذابه أرقاً لا ناراً. وكنت، إذا خطر لشيطان دائي أن يحل عني ساعة، ادخل في غفوة مضطربة تشبه شريطاً سينمياً لا يزال يعرض علي الحلم المزعج يليه الحلم المزعج حتى ينتهي الأمر إلى كابوس غليظ مرت سنوات وداء الأرق هذا على حاله مني. لكنني لم ألبث بعد مدة أن ألفته كما تألف الدنيا النوم. بل أصبحت وأنا في يقظتي المستمرة أحكي الغارق في سبات عميق لذلك خف علي هم دائي وبت أحاول أن أجعل لي فيه مسلياً متبعاً بأمانة المثل الحكيم: إذا لم يكن ما تريد فأرد مايكون. وفعلاً أصبحت أجد شيئاً من اللذة في أرقي. فقد أكسبني هذا الداء عادة لا بأس بها، ذلك أنه تملكني غرام التفكير. كنت أفكر مستمراً، فغدوت لا أراني إلا والخاطرة في رأسي تدفع الخاطرة، ولآراء والأفكار والملاحظات تجول داخل جمجمتي ومن حولها كما تجول قبائل النحل حول جرارها وإن لذة الفكر - وكل من ذاق هذه الفاكهة يعلم ذلك - لمتعة لا تعدلها متعة أخرى. هي لذة الفكر التي وهبت سقراط صبراً على اكسانتيب ودارون روحاً طويلاً على مرضه. وهي نفسها التي حببت إلى إديسن العمل في مختبره ليلة زفافه، ساهياً عن