لعل أول ما يبدأ به الأوربي الذي يؤم الشرق ليعرف البلاد ويدرس حضارتها ولغتها هو تخصيصه قسماً من وقته لتعلم اللغة العامية، وهذا كثيراً ما يدعو لتعجب أصدقائه الشرقيين، وعلى الأخص المتعلمين منهم، لذلك فطالما سمعنا هؤلاء الأصدقاء يقولون لنا: لماذا يضيعون كل هذا الوقت في دراسة لغة عامية تتألف أكثر جملها من كلمات غير صحيحة؟ إن الأولى بكم أن تحصروا جهودكم في تعلم اللغة الفصحى التي تحتاج معرفتها الكاملة لزمان طويل. .
أن ما يؤكدونه لنا من صعوبة تعلم اللغة العربية الفصحى هو حقيقة يصل إليها كل منا بنفسه بعد متاعب كثيرة يتحملها، ولكن هذا التأكيد لا يقلل في أعيننا الفائدة التي نتواخها في دراستنا اللغة العامية. لقد تبين لي أكثر من مرة أن كثيراً من الشرقيين، المتعلمين منهم، يتساءلون عن هذه الفائدة المتوخاة ويشكون في صحتها ولذلك فقد رأيت من المفيد أن ألخص في بضع صفحات من الثقافة الأسباب التي تدعونا للمثابرة على هذا النوع من الدراسة التي صغر شأنها في أعينهم.
أن أول سبب من أسباب هذه الدراسة وأبسطها هي الفائدة العلمية. ورب قائل بأن اللغة العامية جميعها اشتقت ومسخت عن اللغة الفصحى وحري بالأوربي أن يتعلم اللغة الفصحى وحدها فلا يحتاج لغيرها من لغات عامية مختلفة وبذلك يتسنى له التكلم في اللغة العربية وتفهمها في جميع الأقطار العربية. على أن المتعلمين من الشرقيين الذين يؤيدون هذا الرأي، يقولون ذلك لأنهم يتكلمون لغتهم وهم يستطيعون بسائق غرائزهم أن يفهموا ما يردون قوله لمحدثيهم من مواطنيهم من أي طبقة كانوا ولعلهم لا يعرفون مبلغ ما يحتاجه الغريب عنهم، من المعرفة الخاصة والتمرين والممارسة الطويلة لكي يتمكن من محادثة فرد من أفراد الطبقة العامية.
يروى أن (هارتفيك ديرنبوغ) أحد الأساتذة القدماء في باريز وهو نحوي نشر الكتاب لسيبويه، وقد توفاه الله منذ زمن بعيد، وسل إلى المغرب وأراد أن يستأجر حماراً يركبه