ما بزغ فجر الحركة العلمية الحديثة في الشرق العربي حتى نشطت فئة من أبنائه فأقبلت على دراسة العلوم الحقوقية وتفهم ما سنته الأمم، غربية كانت أو شرقية، من شرائع ونظم وقوانين، وزاد في هذا النشاط والإقبال تطور تلك الدراسة وتصنيفها في عداد العلوم لمدرسية الأخرى، فلقد كانت العلوم الحقوقية في جميع أجزاء البلاد العثمانية ومنها بلاد الشرق العربي وفقاً على الشيوخ من رجال الدين والمتفقهين، وكانت الشريعة الدينية والفقه الديني والقضاء الديني المراجع الوحيدة للحكم في جميع القضايا الحقوقية والجزائية والتجارية والإدارية وغيرها من فروع الحقوق، ودام الأمر عل هذا حتى عهد التنظيمات الخيرية التي جرت في زمن خلافة السلطان عبد المجيد سنة ١٨٣٩ حينما شرع العثمانيون بنقل القوانين عن الغرب وتعديل أكثرها ثم توكيل أمر النظر فيها إلى محاكم نظامية أقاموا ف سنة ١٨٧٩ عدداً منها في المدن والأمصار. ومن أسبابا انتشار الدروس الحقوقية في الغرب في الشرق العربي أيضاً البعثات العلمية إلى الغرب وما أنشئ من معاهد ومدارس للحقوق في القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد ولقد سرت عدوى دراسة الحقوق سرعاً فكثر الإقبال على هذه الدراسة حتى أوشك أن لا يتناسب مع دراسة العلوم الأخرى. ومما يسترعي انتباه الباحث أن هذه الدراسة كانت في جميع وجوهها مقتصرة على درس الحق دون الواقع ونريد هنا بالواقع ما يحترمه الناس، ويجرون على مقتضاه، ويعملون على الاحتفاظ به دون أن يكون هنالك من القوانين والأنظمة ما يؤيده، ويدخل في هذا الباب طائفة كبيرة من التقاليد والعادات والأنماط التي ما برحت تجري مجرى العرف ولا يجمعها قانون أو يضمها نظام، فيرجع في تفهمها إلى ما عرفه الناس عنها وما حفظوه من أصولها.
قد يتفق الحق مع الواقع فيكون الأمر من الوجهة العلمية كما هو من الوجهة القانونية، ولكن كثيراً ما نجد حكماً من الأحكام أيده الحق ونص عليه، ولكن الواقع يخالفه أو يفرق عنه. ولعل أوضح مثال نضربه على ذلك، تعدد الزوجات، فهو حكم ما برحت تنص عليه وتبيحه شرائع بلاد الشرق العربي، ولكنه في الواقع ندر في المدن الكبرى وقل كثيراً في المدن الصغرى. وكذلك حظ المرآة من الإرث فإن القوانين في جميع بلاد الشرق العربي ما